{٣} ولكننا قلنا آنفاً إن أولئك النذيرين إذ رفضوا السجود لتمثال الملك فكان لابد أن يتعرضوا لغضبه وأتونه المتقد ، ولكنهم قد أعدوا العدة لذلك بنعمة الله لأن انتذارهم كان حقيقياً ، فكانوا مستعدين أن يضحوا بكل شئ حتى الحياة نفسها فى سبيل الدفاع عن عبادة إله إسرائيل فهم قد عبدوا وخدموا إله إسرائيل ليس فى حالة جلوسهم آمنين تحت تينهم وكرومهم فى أرض كنعان فقط ، بل فى مواجهة آتون النار المحمى أيضاً . وقد اعترفوا بيهوه ليس فى وسط جماعة العباد الحقيقيين فقط ، بل فى مواجهة عالم معارض ومقاوم أيضاً ، فكان اتباعهم للرب اتباعاً حقيقياً فى يوم شرير ، قد أحبوا الرب ، ولأجل خاطره امتنعوا عن أطايب الملك ، وثبتوا أمام غضبه ، واحتملوا أتونه المحمى "يانبوخذ نصر لا يلزمنا أن نجيبك عن هذا الأمر . هوذا يوجد إلهنا الذى نعبده يستطيع أن ينجينا من أتون النار المتقدة وأن ينقذنا من يدك أيها الملك . وإلا فليكن معلوماً لك أيها الملك أننا لا نعبد آلهتك ولا نسجد لتمثال الذهب الذى نصبته" (دا 3 : 16-18) هذه كانت لغة أناس عرفوا أنهم لله ، وقدَّروا مركزهم حق قدره ، أناس حسبوا النفقة بكل هدوء ، أناس كان الله لهم كل شئ فضحوا بكل ما يمكن للعالم أن يمنحه وبحياتهم أيضاً ، وماذا كان أمامهم ؟ "تشددوا كأنهم يروا من لا يُري" كان أمامهم المجد الأبدى ، وكانوا مستعدين أن يصلوا إليه فى طريق من نار ، والله يستطيع أن يأخذ خدامه إلى السماء فى مركبة من نار أو فى أتون من نار بحسب ما يحسن فى عينيه ، وكيفما كانت طريقة الذهاب فالوصول إلى هناك حسن وجميل .
ولكن ألم يكن الله قادراً أن يحفظ عبيده الأمناء من الدخول فى الأتون ؟ ما كان أيسر ذلك عليه ، ولكن لم يفعله لأنه أراد أن يضع إيمان عبيده فى بوتقة الامتحان . أراد أن يمتحنه بالنار ، أراد أن يمحصه فى الأتون لكى "يوجد للمدح والكرامة والمجد" هل يضع الصائغ الذهب فى النار لأنه لا يُقدِّر قيمته ؟ كلا ، بل لأنه يُقدِّرها ، وغرضه ليس إزالة الزغل فقط بل إلماع المعدن الثمين أيضاً .
إنه من الواضح أن الرب لو حفظ عبيده من دخول الأتون بعمل معجزى لكان ذلك يعود عليه بمجد أقل وعليهم ببركة أنقص ، فكان خيراً لهم أن يتمتعوا بحضوره ومواساته داخل الأتون من أن يحظوا بقوته فى حفظهم خارجاً عنه . وما أعظم المجد للرب وأكبر الامتياز لهم إذ نزل هو بنفسه ليسير فى الأتون الذى قادتهم أمانتهم إليه ! فقد سبق أن ساروا مع الرب فى قصر الملك ، ولذلك سار الرب معهم فى أتون الملك ، وكان ذلك بلا شك أسمى وقت فى حياة شدرخ وميشخ وعبدنغو ، ولم يكن الملك ليدرى أنه بإنزال حمو غضبه بأولئك الرجال إنما رفعهم إلى ذلك المستوى السامى ، حتى تحولت كل عين من النظر إلى تمثال الملك العظيم الى الشخوص بدهشة إلى أولئك الأسرى المسبيين : ياللعجب ! كانوا ثلاثة مقيدين ، فإذا بهم أربعة محلولون . أصحيح هذا ؟ وهل كان الأتون ذا نار حقيقية ؟ نعم ، كانت ناره حقيقية ، حتى أنها أحرقت "جبابرة القوة فى جيش الملك" ، وكانت مستعدة أيضاً أن تحرق تمثال الملك العظيم لو أنه ألقى فيها . فلا حجة يستند عليها الكافر والطبيعى ، بل كان الأتون حقيقياً ، واللُهُب حقيقية ، والرجال قد أوثقوا فى أقمصتهم وسراويلهم وثيابهم بكل حق ويقين .
ولكن كانت هناك حقيقة أعظم وهى أن الله كان هناك ، وهذه الحقيقة قد غيرت كل شئ ، غيرت كلمة الملك ، وحولت الأتون إلى مكان للشركة السامية المقدسة ، وحولت أسرى نبوخذ نصر المقيدين إلى محررى الرب الطليقين .
كان الله هناك ، هناك بقوته لكى يستهزئ بمقاومات الناس ، هناك بعطفه وحنانه ليواسى الأمناء عبيده المجربين ، هناك بنعمته الساطعة ليطلق الأسرى أحراراً ويقود قلوب نذيريه الأمناء إلى تلك الشركة العميقة معه التى كانت تتعطش إليها نفوسهم .
أيها القارئ الحبيب ، ألا يستحق التمتع بمحضر المسيح وعطف قلبه الرقيق أن نجوز فى سبيله فى أتون النار ؟ أليست القيود مع المسيح خيراً من الجواهر بدونه ؟ أليس الأتون حيث المسيح خيراً من قصر منيف حيث لا يوجد هو ؟ الطبيعة تقول "لا" أما الإيمان فيهتف "نعم" .
لا يجب أن يغرب عن بالنا أن الوقت الحاضر ليس هو زمان قوة المسيح بل زمان عطفه ، عندما يسمح لنا الرب بأن نجوز فى مياه التجارب العميقة كثيراً ما تميل قلوبنا إلى التساؤل "لماذا لا يظهر الرب قوته ويخلصنا" ؟ والجواب على ذلك هو ، إن الوقت الحاضر ليس وقت قوة المسيح ، فهو بلا شك قادر أن يزيل المرض ، ويبدد التجربة ويمنع المصيبة من الحلول ، ويحفظ الشخص العزيز من قبضة الموت القاسية ، ولكنه عوضاً أن يظهر قوته للخلاص كثيرا ما يسمح لتلك الأمور أن تجرى مجراها ، ثم يمطر وابلاً من عطفه الحلو على القلب المجرب الحزين بكيفية تجعلنا نعترف أننا ما كنا لنقبل العالم كله بديلا عن التجربة بالنسبة لوفرة التعزية .
هذه أيها القارئ العزيز هى خطة سيدنا فى الوقت الحاضر ، ولكن بعد قليل لابد أن يظهر قوته ، لابد أن يأتى كالراكب على الفرس الأبيض ، لابد أن يشهر سيفه ، لابد أن يشمر عن ذراع قوته ، لابد أن ينتقم لشعبه ويستخلص حقوقهم إلى الأبد . أما الآن فسيفه مخفى فى غمده ، وذراعه مغطى ومستور ، لأنه زمان إظهار محبة قلبه لا حدة سيفة وقوة ذراعه . فهل أنت راض بذلك ؟ هل أنت مكتف بعطف يسوع عليك حتى فى أشد أوقات التجربة والحزن ؟ إن القلب والنفس غير الصابرة والإرادة التى لم تمت بعد تشتاق لأن تهرب من التجربة والضيقة ، ولكن هذا لا يجدى نفعاً ، بل فيه خسارة عظيمة ، ولابد لنا أن نتدرج من درجة إلى درجة فى المدرسة ، ولكن المعلم برفقتنا ، نور محياه يضئ علينا ، وعطف قلبه يدعمنا فى أصعب التدريبات .
ثم انظر أى مجد رجع إلى اسم الرب عندما جاز عبيده فى التجربة ظافرين بنعمته منتصرين ! اقرأ (دا 3 : 26-28) ثم خبرنى هل يوجد أثمن وأجمل من ثمار الأمانة فى اتباع الرب ؟ فالملك ومشيروه الذين كانوا من وقت قصير مشغولين بالأصوات الموسيقية والعبادة الكاذبة نراهم الآن مهتمين بتلك الحقيقة المدهشة أن النار التى أحرقت أقوى الرجال لم يكن لها تأثير على عبيد الإله الحقيقى إلا فيما يتعلق بحل ربطهم وإطلاقهم ليسيروا أحراراً مع ابن الله "ثم اقترب نبوخذنصر من باب أتون النار المتقدة وأجاب فقال يا شدرخ وميشخ وعبدنغو ياعبيد الله العلى اخرجوا وتعالوا . فخرج شدرخ وميشخ وعبدنغو من وسط النار . فاجتمعت المرازبة والشحن والولاة ومشيروا الملك ورأوا هؤلاء الرجال الذين لم تكن للنار قوة على أجسامهم وشعرة من رؤوسهم لم تحترق ورائحة النار لم تأتِ عليهم"
نرى هنا شهادة مجيدة ما كان يمكن الحصول عليها لو أن الله حفظ بقوته عبيده من أن يلقوا فى الأتون ، وقد علم نبوخذ نصر أن "عبيد الله العلي" لا يخافون من أتونه المتقد أكثر من خوفهم من السجود لتمثاله العظيم . وبالإجمال فقد ارتبك العدو ، وتمجد الله ، وخرج عبيده الأمناء سالمين من أتون النار المحمى . ويالها من أثمار ثمينة للانتذار الحقيقى للرب ! .
ثم لنلاحظ أيضاً الكرامة التى حصل عليها أولئك النذيرون "فأجاب نبوخذ نصر وقال تبارك إله شدرخ وميشخ وعبدنغو" فقرن الملك أسماءهم باسم إله إسرائيل ، وهذه كرامة لا تُقدّر . سبق لهم أن اعترفوا بالإله الحقيقى عندما كان الاعتراف به هو الحد الفاصل بين الحياة والموت ، ولذلك اعترف الإله الحقيقى بهم ، وقادهم إلى رحب لا حصر فيه . ثبت أقدامهم على الصخرة ، ورفع رؤوسهم على كل أعدائهم المحيطين بهم . ما أصدق قول الرب "أنا أكرم الذين يكرمونني" وما أصدق قوله أيضاً "والذين يحتقروننى يصغرون" (1صم 2 : 30) .
أيها القارئ المحبوب هل وجدت سلاماً إلهياً كاملاً لضميرك الملوث بالخطية فى كفارة المسيح الكاملة ؟ هل آمنت بكلمة الله ؟ هل ختمت بأن الله صادق ؟ إن كان الأمر كذلك فأنت ابن لله ، مغفور الخطايا ومقبول فى المسيح ، والسماء بكل أمجادها أمامك ، ولابد أن تصل إليها كما وصل المسيح لأنك متحد به .
هكذا دبر الرب لك أمرك إلى الأبد على أحسن ما تتمنى ، فأعوازك سددها وذنوبك محاها وسلامك وطده وثبته ، ولم يبقى لك ما تعمل .
فماذا عليك إذن ؟ فقط عش للمسيح ، قد تركك الرب هنا زماناً قصيراً لكى تحيا له وتنتظر ظهوره ، فاجتهد أن تكون أميناً لسيدك العزيز ، لا تفشل بالنظر للانحطاط الذى حولك ، بل تشجع مستفيداً من مثال دانيال ورفقائه ، واعلم أنه من امتيازك أن تتمتع الآن بنفس الشركة مع الرب التى تمتع بها القديسون فى العصر الرسولى الذهبى .
ياليت الروح القدس يُعين كاتب هذه السطور وقارئها على الاستقاء من روح ربنا يسوع المسيح والسير فى آثار خطواته وانتظار مجيئه من السماء.
بقلم : تشارلس ماكنتوش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق