الأربعاء، 4 مايو 2011

اتباع الرب في اليوم الشرير (2)

{١} "سر الرب لخائفيه" (مز 25 : 14) نرى إيضاحاً جميلاً لهذه الآية فى المسألة الماثلة أمامنا ، فالمجوس والسحرة والعرافون والكلدانيون الذين أُتى بهم إلى حضرة الملك كانوا جميعاً فى ظلام دامس بخصوص حلم الملك "أجاب الكلدانيون قدام الملك وقالوا ليس على الأرض إنسان يستطيع أن يُبيِّن أمر الملك" هذا صحيح ، ولكن يوجد إله فى السماء يعرف كل شئ عن هذا الأمر ، ويستطيع أن يُبيِّنه لأولئك الذين عندهم الإيمان والتعبد وإنكار الذات الكافى لأن يجعلهم ينفصلوا عن نجاسات بابل ولو كانوا من الأسرى فيها . فالألغاز والعقد التى تستعصى على الإنسان واضحة ومكشوفة لدى الله ، وهو يعلنها للذين يسيرون معه بالقداسة اللائقة بمحضره المقدس . ونذيرو الرب أبعد نظراً فى أمور الحياة من أعظم فلاسفة العالم ، وكيف يكون ذلك ؟ كيف يستطيعون كشف أسرار العالم الغامضة ؟ السبب هو أنهم فوق ضباب العالم ، ومنفصلون عن نجاساته ، وفى مركز الاعتماد على الرب والشركة معه "حينئذ مضى دانيال إلى بيته وأعلم حننيا وميشائيل وعزريا أصحابه بالأمر ليطلبوا المراحم من قبل إله السموات من جهة هذا السر" . هنا نرى مركز قوتهم وفهمهم ، فما كان عليهم إلا أن يرفعوا عيونهم إلى السماء لينالوا فهماً واستنارة بخصوس مقاصد الله فى الأرض .

"الله نور وليس فيه ظلمة البتة" ولذلك إذا أردنا نوراً لا نجده إلا فى محضره ، ولا نستطيع أن نتمتع بمحضره المقدس إلا إذا انفصلنا عملياً عن كل نجاسابات الأرض . ونلاحظ نتيجة أخرى لانفصال دانيال المقدس "حينئذ خر نبوخذ نصر على وجهه وسجد لدانيال وأمر بأن يقدموا له تقدمة وروائح سرور" . وهنا نرى أعظم الملوك قوة واقتداراً وتكبراً ساجداً عند قدمى مسبى أسير ، يالها من صورة بديعة ! ياله من ثمر فاخر من أثمار الإيمان ! حقاً إن   الله يكرم الإيمان الذى يسمو لمعرفة أفكاره تعالى ، لأنه لا يخيب ثقة من يتقدم إلى كنوزه الفياضة ، وقد أدرك دانيال فى تلك المناسبة أن الله قد تمم معه بكيفية عجيبة وعده القديم القائل "فيرى جميع شعوب الأرض أن اسم الرب قد سمى عليك ويخافون منك .... ويجعلك الرب رأساً لا ذَنَباً وتكون فى الارتفاع فقط ولا تكون فى الانحطاط" (تث 28 : 10 ، 13) . ومن يتأمل فى المنظر السابق يرى بكل تأكيد دانيال رأساً ونبوخذ نصر ذَنَباً ، ومن يتأمل أيضاً فى الوقفة التى وقفها هذا النذير المقدس أمام بيلشاصر الشرير يرى أنه كان فى الإرتفاع حقيقة لا فى الانحطاط (دا 5 : 17) ألا نرى فى هذه الصورة مظاهر العظمة التى و عد بها الرب لنسل إبراهيم ، كتلك التى بدت فى أيام يشوع عندما وضع القواد الظافرون أرجلهم على أعناق ملوك كنعان ؟ (يش 10 : 24) أو كالتى ظهرت فى أيام سليمان عندما "كانت كل الأرض ملتمسة وجه سليمان لتسمع حكمته التى جعلها الله فى قلبه" (1مل 10 : 24) نعم بكل تأكيد ، بل إن هذه المظاهر لأكثر جمالاً من تلك ، لأنه كان من الطبيعى أن نتوقع رؤية تلك المظاهر فى أيام يشوع وسليمان ، تلك الأيام الزاهرة . أما أن نجد ملك بابل العاتى ساجداً عند قدمى أحد أسراه فهذا فوق متناول العقل وبعيد عن انتظار الطبيعة .

ولكن هكذا حدث برهاناً عجيباً على قوة الإيمان الذى ينتصر على كل الظروف والصعاب ، ويأتى بأبهر النتائج الخارقة للطبيعة ، فالإيمان هو الإيمان - ذلك المبدأ القوى بعينه الذى يعمل فى سهول فلسطين كما على قمة الكرمل كما بجانب أنهار بابل كما فى وسط خرائب الكنيسة الاسمية ، لا تقف فى طريقه عقبة ، ولا تقوى عليه صعوبة ، ولا يضعفه عائق ، ولا يؤثر عليه مؤثر بل لابد له أن يرتفع إلى غرضه الوحيد الذى هو الله نفسه وإعلانه الأبدى . تدبيرات الأزمنة تتغير ، والأجيال تتعاقب ، وعجلات الزمن تدور مسرعة ساحقة تحتها أعز أمانى القلب البشرى ، ولكن الإيمان يقف ثابتاً - ذلك الحق الإلهى الدائم الأبدى يبقى مستنداً على الحق الصافى ، واجداً كل ينابيعه فى ذلك الذى هو "الطريق والحق والحياة" .

بمقتضى هذا الإيمان الثمين تصرف دانيال عندما جعل فى قلبه أنه لا يتنجس بأطايب الملك . صحيح أنه لم يكن فى استطاعته أن يصعد إلى بيت الرب المقدس حيث كان يسجد أباؤه ، صحيح أن أقدام الأعداء القساة قد وطأت المدينة المقدسة ، صحيح أن النار التى كانت متقدة دائماً على مذبح إله إسرائيل قد خمدت ، والمنارة الذهبية قد انطفأت فلا تنير المكان المقدس بسرجها السبعة . كل هذا صحيح ، ولكن كان فى قلب دانيال إيمان رفعه فوق جميع الظروف المحيطة ، وجعله يتصرف بقوة كل مواعيد الله . إن الإيمان لا يتأثر بالهياكل الخربة ، ولا بالمدن الساقطة ، ولا بالأنوار المنطفئة ، ولا بالأمجاد الزائلة . ولماذا ؟ لأن الله لا يتأثر بها ، بل هو فوقها دائماً ، وهكذا الإيمان أيضاً لابد أن يكون فوقها دائماً .

{٢} على أن نفس الإيمان الذى حمل أولئك الرجال القديسين على رفض أطايب الملك قد مكّنهم بعد ذلك من احتقار تمثال الملك ، فقد سبق لهم أن انفصلوا عن كل نجاسة ، لكى يتمتعوا بشركة عميقة مع الإله الحقيقى وعلى ذلك لم يكونوا ليسجدوا لتمثال من ذهب مهما كان عالياً وعظيماً ، قد عرفوا أن الله حقيقة لا تمثال ، ولذلك لم يكونوا ليقدموا السجود إلا إليه .

ثم إنه لم يكن يهمهم معارضة العالم كله لهم ، لأنهم قد اكتفوا بالعيشة لله والتمتع برضاه ، ولابد أن الكثيرين اعترضوهم قائلين "لماذا ترفعون أنفسكم كأنكم أحكم من غيركم ؟ ما أكثر ادعاءكم ، أتقاومون تيار الرأى العام بأكمله ؟ أولا يوجد الحق إلا عندكم ؟ وهل جميع الولاة والحكام والرؤساء والقضاة والمشيرين والشحن والمرازبة غارقون فى لجّة الخطأ دونكم ؟ هل من المعقول أن يكون جميع أولئك العظماء والعلماء والأشراف مجمعين على الخطأ ولا يكون فى جانب الصواب إلا نفر قليل من الأسرى الغرباء؟" .
كل هذه الاعتراضات لابد أنها قابلت أولئك النذيرين ، ولكنها لم تكن لتثنى عزمهم أو ترجعهم إلى الوراء ، أيسجدون لتمثال تفادياً لظهورهم كدائنين لباقى الناس ؟ كلا ، بل لابد لجميع الذين يريدون أن يعيشوا بضمير طاهر أمام الله أن يعتبروا مدّعين إذ هم يدينون الآخرين بأعمالهم . ولا شك أن لوثر مثلاً قد تهكم عليه الناس إذ نصب نفسه فى مركز المقاومة للدكاترة والكرادلة والبابا ، فهل كان يجب عليه تجنباً لهذا التهكم أن يعيش ويموت فى الخطأ ؟ من يستطيع أن يقول بهذا ؟

ولكن ربما يقول البعض إن لوثر كان يقاوم خطأً واضحاً محسوساً . فنجيب "هذا صحيح ، ولكن الآلاف المؤلفة من العلماء والعظماء فى زمانه كانوا يفتكرون بعكس ذلك" وهكذا كان الحال مع شدرخ وميشخ وعبدنغو ، فقد كانوا يقاومون عبادة الأصنام ، ولكن العالم كله خالفهم فى ذلك . فماذا إذن ؟ "ينبغى أن يطاع الله أكثر من الناس" (أع 5 : 29) ليعمل الآخرون كيفما أرادوا "أما أنا وبيتى فنعبد الرب" .

آه أيها القارئ العزيز ، هل تريد أن تسير بخطى ثابتة إلى الأمام فى طريق اتباع الرب ، ذلك الطريق المقدس السامى ؟ إذن فلا تهتم إن كنت بعملك هذا تدين الآخرين أم لا تدينهم ، إن أول شئ على التلميذ الحقيقى أن يعلمه هو أن "يعرض عن الشر" (1بط 3 : 11) ومن ثم يتعلم أن "يصنع الخير" "إن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً" (مت 6 : 22) عندما يتكلم الله فلا يليق بى أن ألتفت حولى لأرى كيف يكون وقع إطاعتى لصوته على الناس ، وماذا تكون أفكارهم من جهتى ، عندما دخل صوت يسوع المقام والممجد فى أذنى شاول الطرسوسى لم يبتدئ أن يفكر فيما عسى أن تكون أفكار الفريسيين ورؤساء الكهنة من جهته فيما لو أطاع ، بل يقول "للوقت لم استشر لحماً ولا دماً" (غل 1 : 16) "من ثم أيها الملك أغريباس لم أكن معانداً للرؤيا السماوية" (أع 26 : 19) هذه هى روح التتلمذ الحقيقى للرب . "أعطوا الرب إلهكم مجداً قبل أن يجعل ظلاماً . وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة" (إر 13 : 16) ولا شئ أضر من التردد عندما يضئ الرب أمامنا السبيل ، لأننا إذا لم نسر بمقتضى النور الذى نحصل عليه فلابد أن يشملنا ظلام دامس ، من ثم يجب علينا كما قال أحدهم أن لا نتقدم عن إيماننا ولا نتأخر عن اختبارنا .

(يتبع)

ليست هناك تعليقات: