السبت، 12 سبتمبر 2015

النمو بواسطة الحق (1بط 2 : 1-6)

النمو بواسطة الحق
(1بط 2 : 1-6)
يوحنا داربي

يعلمنا روح الله علي لسان الرسول ان احسن حالة للمؤمن من بعض الوجوه هي ان يكون "كطفل مولود الآن" ولو انه مطلوب منا ان ننمو ونتقدم (اولاد واباء) في المسيح , ولكن لكي يتسني للنفس من حيث الحالة العملية ان تقبل الحق من الله ينبغي ان تكون كطفل مولود الآن "كأطفال مولودين الآن اشتهوا اللبن العقلي العديم الغش لكي تنمو به" , هذا هو المركز الذي يضع الروح القدس المؤمنين فيه لكي يستطيعوا ان ينموا في المسيح .
إن النمو لا يكون إلا بلبن الكلمة العديم الغش , ولا يأتي من وراء كد وإجهاد اذهاننا في الكلمة ولا بالدرس الكثير فيها , فنحن في عوز الي تعليم الروح القدس وهذا لا نحظي به مالم ندرب انفسنا للتقوي فتطرح "كل خبث وكل مكر والرياء والحسد وكل مذمة" اي ان الروح القدس يكون حزيناً بسبب وجود اي امر من هذا القبيل , فاذا عمل الجسد والخبث والرياء والمذمة في قلب المسيحي فقل علي النمو الروحي السلام, وهيهات وهو في هذه الحالة ان ينمو في معرفة امور الله معرفة صادقة , من ثم فهو مطالب ان يكون "كطفل مولود الآن" يقبل الطعام والغذاء من الكلمة ببساطة قلب مقتنعاً بضعفه وجهله .
حقاً ان الرب يحفظ مثل هؤلاء البسطاء المستندين عليه قائلاً لهم "لتكثر لكم النعمة والسلام بمعرفة الله ويسوع ربنا" (2بط 1 : 2) ومن المعلوم ان معرفة الله تقود الانسان الي التواضع , وكلما ازداد نمونا في معرفته كلما ادركنا فراغنا "فإن كان احد يظن انه يعرف شيئاَ فإنه لم يعرف شيئاً بعد كما يجب ان يعرف" (1كو 8 : 2) .
فعلي المؤمن ان يشبه الطفل الذي يستمد التغذية من امه علي الدوام وان يتغذي من الكلمة , ومتي قبلنا الكلمة بالإيمان تشددت نفوسنا وفزنا بالقوة فننمو في معرفة الله وفي نعمته , فالرسول بولس لما سمع بإيمان الافسسيين بالرب يسوع المسيح اخذ يصلي بأن يعطيهم "إله ربنا يسوع ابو المجد روح الحكمة والإعلان في معرفته مستنيرة عيون (اذهانهم ليعلموا) ما  هو رجاء دعوته وما هو غني مجد ميراثه في القديسين" (اف 1 : 17-18) "ان كنتم قد ذقتم ان الرب صالح" فنحن نقبل الي كلمته لننال منها حاجتنا من التعزية والانتعاش لنفوسنا .
ان الكلمة التي اعلنها واعطاها لنا ذات رائحة ذكية فهي كلمة نعمته , وقد يتأتي لي ان أدرس الكلمة مرة بعد اخري ولكن ان كانت لا تقودني الي الشركة معه فلا استفيد شيئاً .
ان الله لا يعلن اموره للحكماء والفهماء , بل "للاطفال" فلا عبرة بمقدرة ذهن الانسان الذي يحكم في امور الله . فمن اراد ان ينال بركة منه عليه أن يأتي بروح الطفل "كأطفال ... اشتهوا اللبن العقلي العديم الغش" وهو يقول "افغر فاك فأملأه" (مز 81 : 10) فالحاد الذهن والمتوقد القريحة يجب ان يقبل الي كلمة الله كطفل .
اما من حيث خدمة الكلمة فان كنت لا استطيع ان أتكلم بها "كأقوال الله" فالسكوت أولي والصمت أحق ولاسيما ان كنت لا استطيع ان أتكلم بها وانا في قوة الشركة مع الله , وحذار من ان نتناول الكلام عن حق لسنا علي يقين منه لأنه لا شئ نظير هذا يعيق النمو , لأننا بذلك نتكلم كمعلمين وليس كمتعلمين , فيلزم ان تكون حالتنا من جهة كلمة الله كأطفال مولودين الآن مشتهين لبن الكلمة العديم الغش لكي ننمو به .
ولا يوجد اصعب من التواضع علي قلوبنا ولا اكثر هواناً علي النفس من ترك مركز الوداعة , وأننا نخلص من الوصول الي هذه الحالة التعسة إذا ذقنا ان الرب صالح , فالتعلم والوصية لا يكفيان للوصول لذلك , لا شك ان الله إله ديان وانه ينتقم من اعدائه ويصب عليهم نار غضبه ورجزه , لكنه لا يعامل المؤمن هكذا لأنه أعلن لنا نفسه كإله كل نعمه , والمركز الذي جئ بنا إليه هو "ان كنتم قد ذقتم ان الرب صالح" إننا حسب الطبيعة بالكاد نصدق ان الرب صالح وذلك لأن شعور قلبنا الطبيعي "عرفت انك ... قاس" (مت 25 : 24) , فإذا تعطلت ارادتنا ولم نتمكن من تنفيذ مشيئاتنا يأخذ منا الغضب كل مأخذ ونقاوم الله بعدم رضوخنا لأحكامه ونظهر العصيان والتمرد في قلوبنا وكأننا في مشاجرة مع الله , ربما هذا الشعور لا يظهر علانية غير انه كامن فينا وانه يعوزنا حسب الطبيعة ادراك نعمة الله , خذ مثلاً الابن الضال الوارد ذكه في (لو 15) فإنه عند شروعه في الرجوع لم تخطر بباله قط نعمة ابيه وتوقع ان أباه يقبله "كأجير" ولكن اسمع ماذا قال الاب , ماذا كانت حاسيات قلبه من نحو ابنه "اخرجوا الحلة الاولي والبسوه واجعلوا خاتماً في يده وحذاء في رجيله , وقدموا العجل المسمن واذبحوه فنأكل ونفرح لان ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاَ فوجد" يالها من نعمة – نعمة غنية – نعمة مجانيه .
قس علي هذا المرأة السامرية المسكينة الجاهلة بصفات من يكلمها وهو وحيد الآب المملوء نعمة وحقاً , الوحيد الذي يستطيع ان يسد عوزها , قال لها الرب "لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك اعطيني لأشرب لطلبت انت منه فاعطاك ماء حياً" (يو 4 : 10) ومعني هذا لو كنت تعلمين النعمة لطلبت مني فأعطيتك .
ان الذهن يعجز عن فهم النعمة بسبب العصيان والتمرد علي الله وعدم المبالاة واهمال الخلاص , ان قلبنا الطبيعي ابتعد كثيراً جداً عن الله حتي انه بسهولة يلتجئ الي اي شئ في العالم ولو الي الشيطان نفسه ليظفر بالسعادة ، لكنه لا يقبل نعمة الله , واذا استيقظ ضميرنا وشعرنا بالخطية وشناعتها في عيني الله وكراهيته لها لا يتبادر الي ذهننا ان الله صالح , فلو عرف ادم نعمة الله لما شعر بعريه ولذهب الي الله ليستره , ولكن لجهله بهذه النعمة – نعمة الله – رأي حالته ثم سعي في الاختفاء من الله بين شجر الجنة , وهذا هو الحال معنا , فشعوره بانه عريان امام الله بدون ان يفهم نعمته الجأه الي الهروب والفرار منه .
فضلاً عن ذلك فحتي المؤمنين بالرب يسوع الذين تدربت ضمائرهم وعلموا ان امرهم مع الله ومرجعهم اليه في كل شئ ربما احياناً لا يشعرون او لا يجزمون بطريقة قاطعة ان الله صالح , وعندئذ تثقل علينا وطأة الشعور بمسئوليتنا , وليس ذلك فقط بل قد نري اننا لا نستطيع ان نفي الله مطاليبه وانه لابد ان يقضي علينا حسب الطريقة التي نتصرف بها , وهذا حق علي نوع ما ولسنا مخطئين في ذلك انما الخطأ هو ان نظن ان الله سيقضي علينا لأننا لم نجد في نفوسنا ما يسره .
أحيانا نظن ان نعمة الله معناها تجاوز الله عن الخطية , كلا , بل بالعكس فإن نعمة الله تعتبر الخطية اشنع واقبح ما يكون وان الله لا يقدر ان يتجاوز عنها ويتساهل في امر ادانتها .
ولو كان في ميسور الانسان ومقدوره ان يصلح طرقه بحيث يستطيع الوقوف امام الله لما كان هناك داع الي النعمة , بل ان كون الله رحيماً منعماً يدل دلالة واضحة علي ان الخطية خاطئة جداً , وان الانسان لكونه خاطئاً ولا يرجي منه خير , وقد بلغ به الخراب مبلغاً متناهياً لا تفيده إلا النعمة المحانية التي تسد عوزه وتملأ احتياجه .
وقد يتأتي ان الانسان يري شناعة الخطية ويعلم يقيناً ان محضر الله لا يدخله دنس او نجس . وان ضميره يبكته علي الخطية , ومع كل لا يستطيع ان "يذوق ان الرب صالح" وحسن جداً ان أصل الي مثل هذا الاختبار لأني بذلك أذوق ان الله بار وأني لفي حاجة الي معرفة ذلك , ولكن اذا كان هذا غاية ما أصل إليه اي اني اعرف ما هي الخطية , ولكن بدون ان تفتقدني النعمة فهذه المعرفة نفسها تطوح بي الي بالوعة اليأس , مثال ذلك لما قال بطرس "اخرج من سفينتي يارب لأني رجل خاطئ" فلقد شف كلامه هذا عن شعوره بأنه ليس أهلاً للوجود في حضرة الرب بسبب خطيته وهذا كان فكر سمعان الفريسي عن المرأة المسكينه التي غسلت قدمي الرب يسوع بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها فتكلم في نفسه قائلاً لو كان هذا نبياً (أي لو كان له فكر الله) لطرد هذه من محضره لانها خاطئة فلم يكن سمعان يعلم ان الرب صالح , ولم يعرف الله إلا كالإله البار جاهلاً بنعمته إني لا أقول انه يتحتم علي الله أن يعاملني بمقتضي صلاحه انما اقول اني اذا كنت اجهل نعمته فإنه لابد ان يطردني انا الخاطئ من محضره لأنه بار , ومن ثم ينبغي ان نعلم من هو الله من نحونا لا طبقاً لما تمليه علينا افكارنا ولكن طبقاً لاعلانه عن نفسه انه "إله كل نعمة" .
فحالما افهم نظير بطرس اني رجل خاطئ وانه مع علمي بمقدار خطيتي وكراهيتها لديه قد أتي اليّ وافتقدني عندئذ افهم ما هي النعمة , ومن ثم يريني الايمان ان الله أعظم من خطيتي وليست خطيتي أعظم من الله "الله بيّن محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا" (رو 5 : 8) وحالما أؤمن ان يسوع هو ابن الله أري ان الله جاء إليّ لأني خاطئ وليس في وسعي الذهاب إليه .
وقد امتحن الله الانسان من حيث مقدرته علي ايفاء مطاليب قداسته فظهر عجزه , وكلما اشرق النور بلمعانه ابان للإنسان ظلامه , وكلما شدد الله في الوصية كلما بان عناده , والنعمة هي ان "المسيح أذ كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعين لأجل الفجار" "ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا" (رو 5 : 6 , 8) اما وقد رأي الله دم ابنه فقد ارتضي به واكتفي , وبه اكتفيت أنا وفي هذا مجد الله .
فالرب الذي وضع حياته عني هو هو الذي معه امري يوماً فيوماً , ومحور عمله لي ومعاملاته معي هي النعمة , فإن كنت في حاجة الي تعلم ما هي محبته فالصليب هو المعلم لتلك المحبة , كيف لا وهو بذل نفسه عني ووضع حياته لأجلي لكي افوز بما فيه من ملء وأظفر بما فيه من فرح , وإني لا أكف عن التعلم ما دمت حياً ومطلوب مني كطفل مولود الأن أن "اشتهي اللبن العقلي العديم الغش لكي انمو به" .
ان سر النمو الصحيح ان انظر الي الرب كصالح , وما أسمي هذه المعرفة كم فيها من القوة لنفسي , وما أهناني وأسعدني بأن أعلم ان يسوع في هذه اللحظة قلبه ممتلئ بنفس محبته من نحوي التي اظهرها علي الصليب بموته عني , هذا هو الحق الذي ينبغي ان تستريح عليه في ظروف الحياة وحوادث الايام , فهب مثلاً إني رأيت شراً في نفسي وعسر عليّ التغلب عليه واخضاعه فعليّ ان اجئ به الي يسوع كصديقي فتخرج منه قوة تتغلب علي ضعفي , ومن اللازم ان يكون الايمان متدرباً ضد كل تجربة لأجل النصرة متحاشياً كل مسعي من قبلي لأنه لا يجدي ولا يغني , وأن مصدر القوة الصحيحة هو الشعور بأن الرب صالح , اما الانسان فيرفض المسيح كمصدر القوة الوحيد ومصدر كل بركة , ولنفرض ان الشركة بين نفسي وبين الله منقطعة , فالقلب الطبيعي يقول انه من الواجب اصلاح شأني قبل ان اقبل الي المسيح ناسياً ان الرب صالح , ومتي علمنا صلاحه ونعمته علينا بالتوجه اليه حالاً كما نحن ونتذلل امامه لأننا لا نجد شيئاً يرد نفوسنا إلا ما فيه ومنه , فالتذلل في حضرته هو التذلل الصحيح فان اعترفنا في حضرته بحالتنا كما هي علي علاتها لا ننال منه إلا النعمة .
وان كان يسوع "مرفوض من الناس" ومرفوض من القلب الطبيعي في كل واحد منا , فمن هو القائل "هانذا اضع في صهيون حجر زاوية مختاراً كريماً والذي يؤمن به لن يخزي" ؟ ان الذي وضع حجر الزاوية هذا هو الله لا الإنسان وهو يقول "هذا فكري عن المسيح" فإذا تعلمت من الله بالروح القدس اصبح لي نفس هذه الافكار عن الرب يسوع , افكار الله عن ابنه , عندئذ اجد قوتي وتعزيتي وفرحي , فيصبح الرب يسوع الذي هو لذة الله ولذته الي الابد لذتي انا ايضاً , فالله يقول "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" "مختاري الذي سرت به نفسي" ومتي تمكنت في نفسي افكاره هذه عن ابنه اري يسوع ربي كريماً وأجد لذتي فيه , فالذي صلب عني "وحمل خطاياي في جسمه علي الخشبة" كريم في عيني الله وفي عيني , فالله لا يستطيع ان يجد راحته إلا في يسوع وحده , فكل ما كان يرجوه الله من الحق او البر وكل ما تمنته نفسه واشتهاه قلبه وجده في الرب يسوع المسيح ووجده فيه لنا ايضاً , هذا ما يهب القلب تعزية , أما أنا فأري يسوع ابن الله الآن في حضرة الله وهو شبعان ومتلذذ به جداً , ففي المسيح – دون سواه – يجد الله راحته ويستريح الي ابد الابدين , أما وقد حمل خطاياي ومحاها بدمه فقد ربطني به في السماء , فهو نزل من السماء وأتي بالله اليَّ , وصعد الي السماء جاعلاً القديسين واحداً معه , فإذ وجد الله ربنا يسوع كريماً فإنه يجدني كريماً فيه , إن يسوع كانسان مجَّد الله علي الارض واستراح الله فيه , وكإنسان اكمل الفداء قد اجتاز السموات ليظهر امام وجه الله لأجلنا , فهو وحده يمنح نفوسنا راحة دائمة , وليست افكارنا عنه هي التي تهبنا الراحة , هذا الذي وجد الله فيه راحته .
إننا لا نبلغ الي هذا بواسطة المعرفة البشرية والذكاء الانساني , فإن الخاطئ المسكين الجاهل متي استنار بالروح يستطيع ان يري الرب يسوع كريماً جداً لدي قلب الله , خذ مثلا اللص التائب استطاع ان يقدم شهادة عن يسوع المسيح ويقرر عن حياته تقريراً عجز عنه كل من كان حوله "أما هذا فلم يفعل شيئاً ليس في محله" اليس هذا متعلماً من الروح ؟ .
لو كنا في شركة مستمرة مع الله لكانت وجوهنا تلمع ولأمكن للغير ان يروا هذا اللمعان وان كنا لا نشعر به , فلما كان موسي مع الله صار وجهه يلمع إذ نسي نفسه وانحصر فكره ووجدانه في الله , ومتي علمنا ان المسيح كريم في قلوبنا تحولت اليه عيوننا وهامت به قلوبنا , وهذا الهيام والشوق يحفظنا من الباطل ويحمينا من الخطية حولنا ويقوي نفوسنا ضد الخطية ويشددها ضد فساد قلوبنا وتمسي الخطية عبارة عن كل ما هو ليس من يسوع المسيح او فيه , ولا يظن القارئ ان السبيل الي التذلل هو المشغولية بخطايانا وانحطاطنا وخستنا , ولكن السبيل الي التذلل هو الافتكار بالرب يسوع والتأمل في فضائله , وخير لنا ان نصرف نظرنا عن انفسنا ونقطع كل علاقة بها لكي ننشغل بالرب يسوع وحده , إنه من حقنا ان ننسي ذواتنا وننسي خطايانا وننسي كل شئ اما الرب يسوع فلا يجوز لنا قط ان ننساه , ولا يمكننا ان نسلك كأولاد الطاعة إلا إذا حصرتنا محبته , فوصيته ليست مجرد وصية وإلا لعجزنا عن حفظها , ياليت الرب يهبنا ان نتعلم عن ملء النعمة التي في ربنا يسوع ابن محبة الآب لكي "نتغير الي تلك الصورة عينها من مجد الي مجد كما من الرب الروح" , ياليتنا ايها الاحباء ونحن نبحث في حق الله ان "نذوق ان الرب صالح" ونوجد "كأطفال مولودين الآن مشتهين اللبن العقلي العديم الغش لكي ننمو به" .


الأحد، 30 أغسطس 2015

ماذا انتظرت

ماذا انتظرت ؟

(مزمور 39 : 7)

هذا سؤال يوجه للقلب وكثيراً ما يكون مفيداً ونافعاً عندما نجد انفسنا في حالة تلهف وانتظار شديد لاشياء وعندما نحصل عليها نكتشف انها لم تكن تستحق هذا التلهف ولا ذلك الانتظار , ان قلب الانسان يشبه تماماً ذلك الرجل الاعرج المسكين الذي كان جالساً علي باب الهيكل (أع 3) يحدق النظر في كل من يمر امامه لعله ينال شيئاً , وهكذا يظل القلب متطلعاً للظروف لعله يجد فيها ما يخفف اضطرابه ويهدئ روعه فربما تجده جالساً بجانب مجري بشري آملاً بأن يصيبه منه شئ ينعشه ويلطف لوعته , انه لامر يدعو للاستغراب عندما نتأمل في تلك الامور التافهة والمساند الحقيرة التي تنتظرها الطبيعة البشرية وترجو منها تفريجاً لكربها كتغيير الظروف - تغيير المناظر – تغيير الهواء – سياحة – زيارة – خطاب – كتاب – او بالاختصار اي شئ يمكنه ان يثير عاطفة الانتظار والامل في القلب المسكين الذي لم يجد مركزه وسنده وكل شئ في الرب يسوع , ومن هنا تظهر الفائدة العملية من مجابهة القلب بشدة لذلك السؤال "ماذا انتظرت؟" ولا شك ان الجواب كثيراً ما يظهر للمسيحي المتقدم انحطاط نفسه ويجعله هدفاً للوم ضميره بشدة في حضرة الرب . ويمكنننا ان نري في العدد السادس من مزمور 39 ثلاث صور للناس فمنهم من "كخيال يتمشون" ومنهم من "باطلاً يضجون" ومنهم من "يذخرون ذخائر" ربما توجد هذه الثلاث صفات متمثلة في شخص واحد ولكن لكل منها تأثير وعمل خاص فيوجد كثيرون كل حياتهم خيال ومظهر كاذب سواء في اخلاقهم الشخصية او في اشغالهم التجارية او السياسية او الدينية , فليس منهم شئ ثابت ولا اصلي او حقيقي ولكن كل ما يظهر منهم تراه متلألئاً ولامعاً ولكنه خيال وسطحي محض وغير متعمق في نفوسهم وكأنك لا تري من النار سوي وميضها ودخانها . ثم تري نوعاً اخر حياتهم كلها سلسلة ضجيج باطل فما من مرة تراهم هادئين مكتفين او سعداً راضين – امامهم دائماً شبح شئ يقترب اليهم او مصيبة قريبة الوقوع تصطك – لمجرد تخيلها – ركبهم وترتعد فرائصهم – يهتمون بالنجاح والتجارة كما بالاصحاب والاطفال والعبيد . ومع ان لهم مراكز يحسدهم عليها كثيرون من ابناء جنسهم تراهم علي الدوام يضجون ويزعجون انفسهم بمخاوف ربما لا تحدث ومصاعب لا تتم واحزان ربما لا يعيشون ليشاهدوها , وبدلاً من ان يرجعوا بافكارهم الي حسنات الماضي ويستمتعوا نعَم الحاضر تراهم يتخيلون ويلات ومصاعب المستقبل وبالاختصار هم "باطلاً يضجون" واخيراً نأتي بنوع ثالث يختلف تماماً عن الاولين – هم اناس شديدو الاحتراس وحاذقو العقول كما انهم مهرة في ضروب التجارة وتكديس الاموال . أناس يعيشون حيث يموت الاخرون , ليس هم "كخيال يتمشون" ولكنك تراهم ثابتين والحياة في اعتقادهم ليست خيالاً ولكنها حقيقة تستدعي الكد والنضال , ولاهم ايضاً "باطلاً يضجون" ولكنك تراهم دائماً في هدوء وسكينه او في حالة عمل واقدام "يذخرون ذخائر ولا يدرون من يضمها" .
ولكن تذكر ايها القارئ العزيز ان الروح القدس الحكيم قد سجل علي الثلاثة علي حد سواء بانهم "للباطل يتعبون" , نعم فالكل بدون استثناء وكل ما هو تحت الشمس قد حكم عليه شخص ملهم بالروح القدس بعد ان اختبر كل شئ بنفسه بأنه "باطل وقبض الروح" فالق نظرك اينما شئت "تحت الشمس" فلا تعود بشئ يمكنه ان يريح القلب ولكن عليك ان ترتفع الي فوق وتحلق باجنحة الايمان القوية الثابتة الي ما هو "فوق الشمس" فهناك تجد شيئاً أحسن وأثبت لأن ذاك الجالس عن يمين العظمة قد قال "في طريق العدل أتمشي في وسط سبل الحق فأورث محبي رزقاً وأملأ خزائنهم" (أم 8 : 20-21) فما من احد غير الرب يسوع يستطيع ان يعطي "رزقاً" ولا يوجد خلافه يستطيع ان "يملأ" ولا يوجد غيره يستطيع أن "يشبع" فيوجد في عمل الرب يسوع الكامل ما يمكنه ان يسد حاجات القلب ورغائبه , فالذي وجد يسوع علي الصليب ووجده ايضاً علي العرش قد وجد كل ما يحتاجه فيما يختص بالزمان الحاضر وكذا بالابدية الأتية ولهذا لاق بصاحب المزمور بعد ان جابه قلبه بهذا السؤال "ماذا انتظرت؟" ان يجيب ويقول "رجائي فيك هو" فليس لقلبه ذلك "الخيال الكاذب" أو "الضجيج الباطل" أو "التكديس غير المثمر" ولكن قد رأي في الرب غرضاً يستحق ان يُرجي وان يُنتظَر , وهكذا بعد ان حوَّل نظره عن كل شئ هنا قال من اعماق قلبه "رجائي فيك هو" فهذا هو مركز السلام والسعادة ايها القارئ العزيز فالشخص الذي ينتظر الرب يسوع لا يخزي ابداً إذ ان له كنزاً لا ينفد من الافراح في الوقت الحاضر وذلك بالشركة مع الرب يسوع كما انه يتهلل بذلك الرجاء المبارك إذ انه بعد ان يزول مشهد هذا العالم بكل هيئته الكاذبة وضجيجه الباطل سوف يجد نفسه مع الرب يسوع ويعاين مجده ويتمتع بضياء وجهه وهكذا يكون مثله الي الابد .
فياليتنا اذن نفحص قلوبنا علي الدوام – تلك القلوب التي تجتهد بأن تربط الانسان بالعالم – بسؤالها هذا السؤال "ماذا انتظرت؟" هل انا منتظر اي تغيير في الظروف ؟ او منتظر "الابن الحبيب من السماء" ؟ هل استطيع ان ارفع بصري الي الرب يسوع واقول له بقلب مملوء بالمحبة والامانة "يارب رجائي فيك هو؟" ياليت قلوبنا تزداد في الانفصال عن هذا العالم الشرير وكل ما يتعلق به بقوة التمتع والشركة بتلك الامور غير المنظورة التي هي دائمة وابدية .
          

 بقلم : كاتب غير معروف

الخميس، 20 أغسطس 2015

المحبة

المحبة
أَمَّا الآنَ فَيَثْبُتُ: الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ، هَذِهِ الثَّلاَثَةُ وَلَكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ الْمَحَبَّةُ1)  كو 13: 13 )
المحبة هي التعبير عما هو الله في طبيعته له المجد. هي التوافق مع طبيعة الله. هي مظهر كوننا صرنا شركاء الطبيعة الإلهية. هي العمل والشعور وفق صفاته ومبادئه. وهي تتجه تلقائيًا إلى الآخرين لخدمتهم وفائدتهم، لكن الآخرون ليسوا هم الدافع إليها والعامل المحرِّك لها، بل غرضها وهدفها. أما دوافعها ومنابعها ففي القلب من الداخل. وقوتها مستقلة عن الغرض المتجهة إليه. فهي تحب في كل الظروف وفق طبيعتها. وتقوى وتتغذى وتنمو بالشركة مع الله نفسه.

المحبة معناها ومضمونها عكس معنى ومضمون محبة الذات. إن محبة الذات هي الأنانية، أما المحبة فتطلب خير الآخرين، كما طلب الله خيرنا. والمحبة المُتمكنة فينا هي قوة تقاوم الشر داخلنا. ومعظم صفات المحبة هي صفات إيجابية ولا تكسب الذات من ورائها شيئًا، وبها يتحرر القلب من ظن السوء. وظن السوء من صفات القلب الطبيعي المُلازمة له. ثم المحبة تحتمل كل شيء في سبيل الخير والبر الذي لا تراه، بينما هي تصبر على المكروه، وتحتمل الشر الذي تراه. وفي كل شيء تتأنى وتترفق.

ولما كانت المحبة هي طبيعة الله، لذلك هي لا تنتهي، وتستمر إلى الأبد غير متغيرة. فكل إعلان عن الله، وكل واسطة تُستخدم في توصيل هذه الإعلانات، وكل علم بالأسرار هنا على الأرض، وبالاختصار كل ما له صفة التجزؤ والتدرج في استكماله، إنما سينتهي وسيبطل. أما المحبة فلن تسقط ولن تنتهي.

والآن في الزمان الحاضر تثبت المحبة مع الإيمان والرجاء ولكن الأعظم بين هذه الثلاثة هي المحبة. لأن الإيمان والرجاء سينتهيان متى جاءت حالة الكمال في المجد، وستبقى المحبة إلى أبد الآبدين، لأن الإيمان والرجاء يرتبطان بطاقة الطبيعة البشرية، أما المحبة وهي طبيعة الله فتفضلهما وتعظم بسبب طبيعتها.

المحبة أكبر وسائط النعمة في جذب النفوس والتأثير عليها. إنها فعَّالة وبناءة أكثر جدًا من جميع المواهب الروحية.

والقلب المُحب وليمة دائمة، لأنه في جميع اتجاهاته يتمم ناموس الله. والقلب المحب مهما لاقى في طريق المحبة فإنه لن يندم على الإطلاق على ما بذل أو أنفق.


بقلم : كاتب غير معروف