اتباع الرب فى اليوم الشرير
لنا فى الثلاثة الأصحاحات الأولى من سفر دانيال درس هام جداً ، هو الدرس الذى نحتاج إليه فى هذه الأيام التى فيها تابع الرب معرض لأن يتأثر بالأحوال المحيطة به ، فيخفض من مقياس شهادته والتصاقه بالرب .
ففى فاتحة الأصحاح الأولى نرى صورة مُفشلة لأحوال شعب الرب الذين تتكون منهم الشهادة الظاهرة له على الأرض "فى السنة الثالثة من ملك يهوياقيم ملك يهوذا ذهب نبوخذ نصر ملك بابل إلى أورشليم وحاصرها . وسلم الرب بيده يهوياقيم ملك يهوذا مع بعض آنية بيت الله فجاء بها إلى أرض شنعار إلى بيت إلهه وأدخل الآنية إلى خزانة بيت إلهه" (دا 1:1، 2) ، هذه ظروف إذا نظرنا إليها بالعين الطبيعية كافية لأن تحط القوى وتثبط الهمم وتضعف العزائم ، فأورشليم خربة ، والهيكل مدوس من الأمم ، وآنية الرب فى بيت إله كاذب ، وشعب يهوذا مسبى فى أرض غريبة ، حالة تجعل القلب معرضاً لأن يرخى تمسكه بمقياس التعبد العملى واتباع الرب الحقيقى . عندما يكون شعب الرب فى حالة كهذه فلابد للنفس أن تصغر ولليدين أن ترتخيا ، كل شخص من شعب يهوذا يحاول أن يشغل مركزه كنذير للرب فى ظرف كهذا يعتبر مُدعياً .
هذا هو حكم الطبيعة ، ولكنه ليس حكم الإيمان ، لأن الإيمان يرى أنه يوجد دائماً مجال واسع أمام كل نفس متعبدة لكى تظهر تعبدها ، ويوجد دائماً طريق مفتوح لكى يسير فيه كل من يريد أن يتبع الرب بالأمانة ولو كان يسير منفرداً . و لا اعتبار للحالة الخارجية فى نظر الإيمان ، لأنه يعتمد دائماً على الله ، ويتغذى بالمسيح ، ويستنشق نسيم السماء فى أوقات الخراب والتشويش كما فى أوقات النظام والسلام على السواء . (مز 63) وهذه نعمة عظيمة للقلب الأمين ، فكل الذين يريدون أن يسيروا فى طريق التعبد يجدون المجال مفتوحاً أمامهم دائماً . وعلى العكس من ذلك ، من يتعللوا بالأعذار ويحتجوا بالظروف مبررين فتورهم وتباطئهم لن يكونوا نشطاء ولو تحسنت الظروف وأصبحت على غاية ما يرومون .
ولو وُجِد زمن يصح أن يُعذر فيه الإنسان على انحطاط مستواه ، يكون هو زمن الأسر البابلى ، إذ فيه قد انهدم النظام اليهودى ، وزال سلطان الملك من يد وارث عرش داود متنقلاً إلى نبوخذ نصر ، وزال المجد عن إسرائيل ، وبالجملة ذهب كل شئ مبهج ومشجع ، ولم يبق لبنى يهوذا المسبين إلا أن يعلقوا أعوادهم على الصفصاف ، ويجلسوا ليبكوا مجدهم الزائل ونورهم المنطفئ وعظمتهم المنهدمة .
تلك هى لغة عدم الإيمان ، ولكن تبارك اسم الله ، فإنه عندما يظهر كل شئ منحطاً إلى أسفل الدركات حينئذ يبرز الإيمان ظافراً منتصراً ، ونحن نعلم أن الإيمان هو الأساس الصحيح الوحيد لاتباع الرب ، وهو لا يطلب دعامة من الناس ، ولكنه يجد "كل ينابيعه فى الله" لذلك كلما اشتد ظلام الظروف المحيطة كلما ظهر لمعان الإيمان بأكثر بهاء ، وكلما تغطى أفق الطبيعة بالسحب القاتمة كلما وجد الإيمان فرصة للتمتع بشمس الله المشرقة .
على هذا المبدأ تمكن دانيال ورفقاؤه أن يتغلبوا على الصعاب التى وُجِدت فى زمانهم ، فقد حكموا أنه يمكنهم التمتع بمركز "الانتذار للرب" بكامل معناه فى بابل كما فى أورشليم بالتمام ، وقد حكموا بالصواب ، وكان حكمهم حكم الإيمان النقى ، وهو نفس الحكم الذى عاش بمقتضاه باراق وجدعون ويفتاح وشمشون قديماً ، هو نفس الحكم الذى بمقتضاه قال يوناثان "ليس عند الرب مانع أن يخلص بالكثير أو بالقليل" (1صم 14) ، هو نفس الحكم الذى حكمه داود فى وادى البطم عندما دعا جماعة اسرائيل المرتعدة أمام جليات "صفوف الله الحي" (1صم 17) ، هو نفس الحكم الذى حكمه إيليا على جبل الكرمل عندما بنى مذبحاً من "إثنى عشر حجراً بعدد أسباط بنى يعقوب" (1مل 18) ، هو نفس الحكم الذى حكمه دانيال نفسه فى دور مستقبل من أدوار حياته عندما فتح كواه وصلى نحو أورشليم كعادته (دا 6) ، هو نفس الحكم الذى حكمه بولس الرسول الذى مع رؤيته تيار الارتداد والفساد قادماً ، يُحرِّض ابنه تيموثاوس أن "يتمسك بصورة التعليم الصحيح" (2تى 1 : 13) ، هو نفس الحكم الذى حكمه الرسول بطرس عندما حرَّض المؤمنين تجاه منظر انحلال جميع العناصر أن "يجتهدوا ليوجدوا عنده بلا دنس ولا عيب فى سلام" (2بط 3 : 14) ، هو نفس حكم الرسول يوحنا عندما حرَّض حبيبه غايس وسط التشويش والسيادة البشرية أن "لا يتمثل بالشر بل بالخير" (3يو 11) ، وهو نفس حكم يهوذا الذى مع تبيانه أنواع الشرور الكثيرة السائدة يشجع البقية المحبوبة أن "يبنوا أنفسهم على إيمانهم الأقدس مصلين فى الروح القدس وأن يحفظوا أنفسهم فى محبة الله منتظرين رحمة ربنا يسوع المسيح للحياة الأبدية" (يه 20 ، 21) . وبالإجمال هذا هو حكم الروح القدس ، لذلك هو حكم الإيمان .
كل هذا يعزز المركز الذى اتخذه داينال ، ويبيِّن قيمة ذلك القصد النبيل الذى قصده فى نفسه والواضح فى الأصحاح الأول من السفر "أما دانيال فجعل فى قلبه أن لا ينتجس بأطايب الملك ولا بخمر مشروبه . فطلب من رئيس الخصيان أن لا ينتجس" (ع8) . كان يمكن لدانيال بحسب الطبيعة أن يقول : لا فائدة أن يحاول شخص مسبى ضعيف مثلى فى ا تخاذ مركز الانفصال ، فكل نظام قد انهدم ، ولا يمكن تنفيذ مبدأ النذير فى وسط حالة خراب وانحطاط كهذه ، فالأليق أن أكيّف نفسى بحسب الظروف التى وجدت فيها ، وأتبع المثل القائل "جارهم مادمت فى دارهم" .
ولكن حاشا أن يقول دانيال ذلك القول ، فقد كان فى مستوى أرقى من ذلك بكثير ، إذ حسب أنه من امتيازه أن يعيش قريباً للرب فى قصر نبوخذ نصر كما فى أورشليم تماماً ، وكأن بلسان حاله قائلاً "لتكن ظروف شعب الرب الخارجية كيفما تكن ، فإنه يوجد أمام كل مؤمن بمفرده باب مفتوح للتعبد والطهارة يمكنه أن يلجأ إليه بغض النظر عن كل شئ آخر" .
ألا نقول إن الإنتذار للرب فى بابل أروع جمالاً وأشد بهاءاً وأعظم قيمة منه داخل أسوار أورشليم ؟ نعم بكل تأكيد ، ما أحلى وأجمل أن نرى أحد المسبيين فى بابل يتخذ مقياساً للإنفصال مثل هذا ، إن فى هذا درساً لجميع الأجيال ، بل مثالاً مشجعاً للمؤمنين فى جميع الأزمان والأحقاب ، يثبت أنه فى وسط الظلام والقتام يمكن للقلب المتعبد أن يسير فى سبيل مشرق منير ، وكيف يكون ذلك ؟ لأن "يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد" (عب 13 : 8) فالعصور تتغير ، والأجيال تولى وتدبر ، والأنظمة البشرية تتداعى وتسقط ، ولكن اسم يهوه يثبت إلى الأبد وذكره إلى دور فدور . وعلى هذا المستوى العالى يرتكز الإيمان مرتفعاً فوق جميع التقلبات متمتعاً بالينبوع الأبدى غير المتغير لكل العطايا الصالحة .
لذلك نرى الإيمان فى عصر القضاة يحرز انتصارات أبهر وأمجد مما أحرزه فى عصر يشوع . وهكذا أيضاً كان المذبح الذى بناه إيليا على جبل الكرمل محاطاً بهالة من البهاء نظير تلك التى أحاطت بمذبح سليمان بالتمام .
إن هذا لمشجع حقاً ، لأن القلب الضعيف معرض للفشل واليأس ، إذ يتأمل فى عدم أمانة الناس عوضاً عن أن يتأمل فى أمانة الله الكاملة "أساس الله الراسخ قد ثبت إذ له هذا الختم ، يعلم الرب الذين هم له ، وليتجنب الإثم كل من يسمى اسم المسيح" (2تى 2 : 19) وأى شئ يستطيع أن يؤثر على ثبات تلك الحقيقة ؟ لا شئ ، وهكذا لا يستطيع شئ أن يؤثر على الإيمان المستند عليها ، ولا على صرح الأمانة والتعبد المشيد على ذلك الإيمان الراسخ .
ثم لنتأمل فى النتائج المجيدة لأمانة دانيال وانفصاله ، فنجد فى الأصحاحات الثلاثة الأولى ثلاثة نتائج جميلة نتجت عن مركز الانفصال الذى اتخذه هو ورفقاؤه تجاه طعام الملك ، أولا قد أُعلِن لهم سر "حلم الملك" ، ثانياً قد ثبتوا ضد ضلالة السجود "لتمثال الملك" ، ثالثاً قد خرجوا سالمين من "الأتون المتقد" .
بقلم : ماكنتوش
(يتبع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق