الاثنين، 7 نوفمبر 2022

 

التأمل في الله

The Contemplation of God

 

لقد رأينا في الفصول السابقة بعض كمالات شخص الله العجيبة الجميلة ، من هذا التأمل الضعيف الناقص في صفات الله ، يجب أن يكون واضحاً لنا أن الله ، أولاً : كائن فوق الإدراك ، ونحن تائهون في التعجب من عظمته اللانهائية ، لا نقدر إلا أن نقتبس كلمات صوفر ، "«أَإِلَى عُمْقِ اللهِ تَتَّصِلُ، أَمْ إِلَى نِهَايَةِ الْقَدِيرِ تَنْتَهِي؟ هُوَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ، فَمَاذَا عَسَاكَ أَنْ تَفْعَلَ؟ أَعْمَقُ مِنَ الْهَاوِيَةِ، فَمَاذَا تَدْرِي؟ أَطْوَلُ مِنَ الأَرْضِ طُولُهُ، وَأَعْرَضُ مِنَ الْبَحْرِ." (أيوب 11 : 7-9) . حين نضع أفكارنا علي حقيقة أن الله سرمدي ، غير مادي ، كلي الوجود ، كلي القدرة ، تذهل عقولنا .

لكن عدم قدرتنا علي إدراك الطبيعة الإلهية ليس سبباً لنتوقف عن أن نستفهم في مخافة ونسعي مصلين أن نفهم ما أعلنه لنا برحمته عن نفسه في كلمته ، حيث إننا لا نقدر أن نحصل علي المعرفة الكاملة ، فمن الحماقة أن نقول إننا لذلك لن نبذل جهداً  للحصول علي أي درجة منها ، أحسن من قال :

"لا يوجد ما ينمي العقل ، أو يعظم من نفس الإنسان ، أكبر من الدراسة المخلصة ، الأمينة ، المستمرة لهذا الموضوع العظيم وهو الله ، أكثر الدراسات امتيازاً لتنمية النفس هي معرفة المسيح وإياه مصلوباً ومعرفة اللاهوت في الثالوث المجيد"

(سي اتش سبيرجن C.H.Spurgeon)

 

ولنقتبس المزيد من كلمات أمير الوعاظ هذا :

"الدراسة اللائقة بالمؤمن هي اللاهوت ، أعلي العلوم ، أعظم التوقعات ، أقوي الفلسفات ، التي يمكنها أن تجذب اهتمام ابن من أبناء الله هي ، اسم ، وطبيعة ، وشخص ، وأعمال ، ووجود الله العظيم الذي يدعوه أباه ، هناك شئ يطور العقل باضطراد في التأمل في اللاهوت ، أنه موضوع واسع جداً ، حتي أن كل أفكارنا تتوه في ضخامته ، وهو عميق جداً ، حتي أن كبرياءنا يغرق في لا محدوديته ، نحن نقدر أن نفهم ونُحكِم قبضتنا علي المواضيع الأخري ، فنحن نشعر فيها بالرضاء عن النفس ، ونمضي في طريقنا قائلين "يا لي من حكيم !" لكن حين نأتي لهذه المعرفة الكبري ، نجد أن الزيج (المقياس) الخاص بنا لا يقدر علي معرفة عمقها ، ولا تقدر عيون النسر الخاصة بنا أن تري ارتفاعها ، ونمضي في طريقنا قائلين "لأَنَّنَا نَحْنُ مِنْ أَمْسٍ وَلاَ نَعْلَمُ، لأَنَّ أَيَّامَنَا عَلَى الأَرْضِ ظِلٌّ" (أيوب 8 : 9)

نعم يجب أن يُعلِّمنا عدم قدرتنا علي إدراك الطبيعة الإلهية التواضع ، والحذر ، والمخافة ، بعد كل أبحاثنا وتأملاتنا علينا أن نقول مع أيوب : "هَا هذِهِ أَطْرَافُ طُرُقِهِ، وَمَا أَخْفَضَ الْكَلاَمَ الَّذِي نَسْمَعُهُ مِنْهُ وَأَمَّا رَعْدُ جَبَرُوتِهِ فَمَنْ يَفْهَمُ؟" (ايوب 26 : 14) . حين طلب موسي من يهوه ان ينظر مجده ، أجابه قائلاً : "وَأُنَادِي بِاسْمِ الرَّبِّ قُدَّامَكَ." (خر 33 : 19)  ، وكما قال آخر "الاسم هو اجتماع صفاته" كان البيوريتاني جون هاوي محقاً حين قال :

"الفكرة التي يمكننا أن نُكوَّنها هنا عن مجده ، هي مثل موجز مختصر عن كتاب كبير ، أو مثل صورة طبيعية صغيرة لبلد كبير ، لقد أعطانا هنا تقريراً حقيقياً عن نفسه ، لكنه ليس كاملاً ، حتي يحمي أفكارنا من أن تنقاد بالخطأ ، لكنه لا يحميها من الجهل ، يمكننا استخدام عقولنا لنتأمل في الكمالات المتعددة التي يكشف لنا بها الله المبارك عن ذاته ، ويمكننا في عقولنا ان نعزوها كلها له ، مع أننا مازلنا لم نحصل إلا علي مفاهيم قليلة وقاصرة عن كل منها ، لكن علي قدر ما تقدر مداركنا أن تتجاوب مع الاكتشاف الذي يهبه لنا عن صفات سموه المتعددة ، لدينا نظرة حاضرة عن مجده" .

صحيح أن الفرق حقاً كبير بين معرفة الله التي للقديسين في هذه الحياة والمعرفة التي سيأخذونها في السماء ، لكن لا يجب أن نقلل من قدر الأولي لأنها ناقصة ، ولا نُعظِّم من الثانية أكثر من الحقيقة ، صحيح أن كلمة الله تعلن أننا سنراه وجهاً لوجه" "ونعرف" كما عُرِفنا (1كو 13 : 12) ، لكن ان نستنتج من ذلك أننا سنعرف حينها الله بمثل كمال معرفته لنا ، نكون قد انخدعنا برنين الكلمات المحض ، وتغافلنا عن التحديد الذي يتطلبه الموضوع بالضرورة ، هناك فارق شاسع بين أن يتمجد القديسون وأن يكونوا آلهة ، سيبقي المؤمنون ، في حالتهم الممجدة ، مخلوقات محدودة ، ولذلك ، لن يقدروا أبداً علي فهم الله غير المحدود .

"سيري القديسون الله في السماء بعين الذهن ، لأنه سيبقي غير مرئي للعين الجسدية ، وسيرونه بوضوح أكبر مما كانوا يرونه بالعقل والإيمان ، وبشكل أكثر توسعاً مما أعلنته كل أعماله وتدبيراته ، لكن لن تتسع أذهانهم بالقدر الذي يقدرون به أن يفهموا في الحال ، أو بالتفصيل ، السر الكامل لطبيعته ، حتي يدركوا الكمال غير المحدود ، عليهم أن يكونوا غير محدودين هم أنفسهم . حتى في السماء ، ستكون معرفتهم جزئية ، لكن في نفس الوقت ستكون سعادتهم كاملة ، لأن معرفتهم ستكون كاملة بهذا المعني ، ستكون مناسبة لسعة الموضوع ، لكنها لن تشمل ملء الموضوع ، نحن نؤمن أن الأمر سيكون مرحلياً ، وكلما اتسعت رؤاهم ، تزداد سعادتهم ، لكنها لن تصل أبداً للحد الذي لا يوجد بعده اكتشاف ، وعندما تمر الأزمنة وراء الأزمنة ، سيبقي هو الإله الذي لا يمكن إدراكه" .

(جون ديك John Dick)

ثانياً : من ملاحظتنا لكمالات الله ، يتضح أنه كائن مكتف بذاته ، هو مكتف بذاته في نفسه ولنفسه ، لأنه أول الكائنات ، فلا يمكنه أن يقبل من آخر ، ولا يحدُّ بقوة آخر ، لأنه غير محدود ، فهو يمتلك كل الكمالات الممكنة ، حين كان الله مثلث الأقانيم في الوجود وحده ، كان هو الكل لنفسه ، وجد فهمه ، ومحبته ، وطاقاته ، موضوعاً مناسباً في ذاته ، لو كان في احتياج لشئ خارجي ، لما كان مستقلاً ، ولما كان هو الله ، لقد خلق كل الأشياء وهذا له (كو 1 : 16) ، لكن لن يكن هذا ليسد احتياجاً ، لكن ليوصل الحياة والسعادة للملائكة والبشر ، ويدخلهم إلي رؤية مجده ، صحيح أنه يطالب مخلوقاته العاقلة بالولاء والخدمات ، لكنه لا يستفيد من أعمالهم ، كل الفائدة تعود عليهم هم "هَلْ يَنْفَعُ الإِنْسَانُ اللهَ؟ بَلْ يَنْفَعُ نَفْسَهُ الْفَطِنُ هَلْ مِنْ مَسَرَّةٍ لِلْقَدِيرِ إِذَا تَبَرَّرْتَ، أَوْ مِنْ فَائِدَةٍ إِذَا قَوَّمْتَ طُرُقَكَ؟"(ايوب 22 : 2-3) ، أنه يستخدم وسائل وأدوات لتحقيق غاياته ، لكن ليس من منطلق نقص القوة ، لكن في أغلب الأوقات ، ولدهشتنا ، يكون هذا لإعلان قوته في ضعف الأدوات .

اكتفاء الله بذاته يجعله الكائن الأسمي الذي نسعي إليه ، لا توجد سعادة حقيقية إلا في الاستمتاع بالله ، الحياة في رضاه ، ورحمته أفضل من الحياة ، "نَصِيبِي هُوَ الرَّبُّ، قَالَتْ نَفْسِي، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَرْجُوهُ" (مراثي 3 : 24) . محبته ، نعمته ، مجده ، هي المواضيع الكبري لرغبة القديسين وهي ينابيع أقصي شبعهم "كَثِيرُونَ يَقُولُونَ: «مَنْ يُرِينَا خَيْرًا؟ ». ارْفَعْ عَلَيْنَا نُورَ وَجْهِكَ يَا رَبُّ. جَعَلْتَ سُرُورًا فِي قَلْبِي أَعْظَمَ مِنْ سُرُورِهِمْ إِذْ كَثُرَتْ حِنْطَتُهُمْ وَخَمْرُهُمْ." (مز 4 : 6-7) ، نعم يمكن للمؤمن ، حين يكون في رشادة عقله أن يقول "فَمَعَ أَنَّهُ لاَ يُزْهِرُ التِّينُ، وَلاَ يَكُونُ حَمْلٌ فِي الْكُرُومِ. يَكْذِبُ عَمَلُ الزَّيْتُونَةِ، وَالْحُقُولُ لاَ تَصْنَعُ طَعَامًا. يَنْقَطِعُ الْغَنَمُ مِنَ الْحَظِيرَةِ، وَلاَ بَقَرَ فِي الْمَذَاوِدِ، فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلهِ خَلاَصِي." (حب 3 : 17-18) .

ثالثا : من ملاحظتنا لكمالات الله ، يتضح أنه السيد القدير علي كل الكون ، أحسن من قال :

"لا يوجد سلطان مطلق كذلك ، الذي تأسس في بدء الخليقة ، من كان من الممكن ألا يفعل شيئاً ، كان له الحق أن يفعل كل شئ حسب مسرته ، حين استعمل قوته التي لا يتحكم بها أحد ، جعل أجزاء من الخليقة مجرد مواد جامدة ، منها ما هو أكبر أو له نسيج أجمل ، وتتميز بصفات مختلفة ، لكنها كلها جامدة وغير واعية ، وأعطي نظاماً لأجزاء أخري ، وجعلها قادرة علي النمو والتوسع ، لكنها تبقي بلا حياة بالمعني السليم للكلمة ، ولأخري لم يعطها فقط نظاماً ، بل وجوداً واعياً ، وأعضاء للحس وللقدرة علي وجود الدافع الذاتي. وفي هذه أضاف للإنسان عطية العقل ، وروحاً خالدة ، يتحد بها مع نظام أعلي من الكائنات التي وضُعت في المناطق العليا ، وعلي العالم الذي خلقه يلوح بصولجان القوة الكاملة . "سَبَّحْتُ وَحَمَدْتُ الْحَيَّ إِلَى الأَبَدِ، الَّذِي سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ، وَمَلَكُوتُهُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. وَحُسِبَتْ جَمِيعُ سُكَّانِ الأَرْضِ كَلاَ شَيْءَ، وَهُوَ يَفْعَلُ كَمَا يَشَاءُ فِي جُنْدِ السَّمَاءِ وَسُكَّانِ الأَرْضِ، وَلاَ يُوجَدُ مَنْ يَمْنَعُ يَدَهُ أَوْ يَقُولُ لَهُ: «مَاذَا تَفْعَلُ؟" (دانيال 4 : 34-35) .

(جون ديك John Dick)

المخلوق الذي يُعتبر هكذا، ليس له حقوق ، لا يمكنه أن يطلب شيئاً من خالقه ، وليس له الحق في الشكوي من أي طريقه يعامله بها ، لكن حين نفكر في السلطان المطلق لله علي الجميع ، لا يجب أن تضيع عن أنظارنا كمالاته الأدبية ، الله عادل وصالح ويقوم بكل ما هو حق ، ومع ذلك هو يمارس قدرته بحسب مسرته الملوكية البارة ، إنه يعين لكل مخلوق مكانه كما يراه خيراً في نظره ، إنه يرتب الظروف المختلفة للكل بحسب مشوراته . إنه يشكل كل إناء بحسب قراراته التي لا تتأثر بأحد . "هو يرحم من يشاء ويقسي من يشاء" أينما نكون ، عينه علينا ، أي من نكون ، حياتنا وكل شئ هو تحت تصرفه . فبالنسبه للمؤمن هو الآب الحنون ، وللخاطئ المتمرد سيكون ناراً آكلة "وَمَلِكُ الدُّهُورِ الَّذِي لاَ يَفْنَى وَلاَ يُرَى، الإِلهُ الْحَكِيمُ وَحْدَهُ، لَهُ الْكَرَامَةُ وَالْمَجْدُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. آمِينَ. " (1تي 1 : 17) .

 بقلم : ارثر بنك

السبت، 22 أكتوبر 2022

لماذا انا بالذات

 لماذا انا بالذات


"أجزاء مقتبسة من رسالة إلى فتاة تقيةٍ ... بعد أن دهمتها

سيارة ورأى الأطباء أنها ستقضى بقية عمرها

رهينة الكرسيِّ المتحرِّك ..."

                   

نأتى الآن إلى موضوعنا وهو سؤال روحى محير لا نجد عليه إجابة بسهولة.

ولعلَّك الآن قد عرفت ما هو السؤال .. وهو لماذا يسمح اللّه لى بهذا ؟ ... ولماذا لا يحدث هذا مع غيرى ؟ لماذا ألمى شديد بينما غيرى أقل ألماً ؟ ... لماذا أجد أن الألم هو طابع حياتى ؟ بينما أقرب الناس إليَّ لم ولن يجتازوا فيما اجتزت فيه أو فى جزءٍ منه ؟ ... لماذا يكون غيرى بسعادته شاهداً على أن المسيح مصدر للسعادة والفرح ؟ وأنا بحزنى وكآبتى وآلامى - هكذا أظنُّ - صورةً أليمة مقدمة للعالم ، وموضوعاً لرثاء الأشرار قبل المؤمنين كما حدث مع أيوب ؟ ... أود أن أكون سعيداً ، وظروفى سهلة وحياتى ميسرة كغيرى من المؤمنين ، وذلك بإخلاص منى ورغبة مقدسة فى استثمار هذه السعادة وتلك الظروف فى خدمة الرب .. فلماذا لا يحدث هذا ؟ وإنما العكس ؟ ... أنا أتساءل والناس أيضاً تنظر وتتساءل ، وتشير بأصبع الاتهام إلى المجرَّب والمتألم ... كما أشاروا إلى الرب فوق الصليب .

وكان السؤال "لماذا أنا بالذات"؟ ... دون الآخرين ؟ ... صحيح أن الألم هو للكلَّ لكن لماذا يكون معيارى منه مع قلَّة من المؤمنين مثلى أكثر من غيرنا بصورة صارخة ؟ ... وبحسب ظنى معطِّلة للشهادة ؟

وأخيراً وجدت الإجابة الجميلة والمريحة على صفحات الوحى . ألم يقل الكتاب "ناموس الرب كامل يرد النفس" ؟ (مز 19 : 7) لقد أنار عينى (مز 19 : 8) ما جاء فى سفر العدد وهو سفر البرية . لقد وجدتُ فيه الإجابة المنشودة . لقد وجدت أن المؤمنين أنواع . ووجدت منهم نوعاً يماثل حالتى وحالة كل متألم . . وحيث أن الكتاب للجميع ، فقد جمع هذا الجزء كل أنواع المؤمنين .

إن لاوى وبنيه قهات وجرشون ومرارى ليمثلون جميع أنواع المؤمنين (سفر العدد الأصحاح السابع) . . وفيه لا نجد جميع المؤمنين متشابهين فى أنواعهم ، أو متماثلين فى ظروفهم . . . لقد اقتربنا من إجابة السؤال .

ونجد إجابة السؤال :

أولاً : عندما نقارن بين معانى أسمائهم

وثانياً : عندما نقارن بين أدوار كل منهم فى الخدمة وما أُلقى عليه من مسئوليات بعضها سهل وبعضها صعب .

وثالثاً : عندما نقارن بين المعونات التى أعطاها اللّه لكل منهم على قدر نصيبه من التعب والمشقة .

 

 

أولاً : معانى الاسماء

فقهـات : معناها محفل أو جماعة وهو بهذا المعنى يمثل مؤمنا طابعه العام هو النجاح الاجتماعي كما سنرى .

وجرشـون : معناها غريب وهو بهذا يمثل مؤمنا طابعه العام هو الغربة والمعاناة منها بسبب اتباعه الرب ، والنبذ من المجتمع واعتبار الناس له "كأقذار العالم ووسخ كل شئ" (1كو 4 : 13).

أما مـرارى : فمشتقة من المرار وهو بهذا يمثل مؤمنا طابعه العام الألم ، والألم إلى درجة المرار .

 

ثانياً : دورهم فى الخدمة

فالقهاتيون : (أو قهات وبنوه) كانوا يحملون ضمن ما يحملون ، التابوت الذى هو رمز للمسيح ويغطونه ببعض الأغطية . وفوق الكل غطاء من الاسمانجونى رمز للصفة السماوية التى للمسيح . فهم يحملون المسيح ويقدمونه للعالم فى صفته السماوية ، وكل من يراهم ، يرى هذا اللون الاسمانجونى ويرى هذه المسحة السماوية فى حياتهم العامة والخاصة ، فى هدوئهم وصفائهم ، بل حتى فى ملامحهم وابتساماتهم . ويوقِّرهم المجتمع كرجال اللّه ، إذ أنهم يعطون أجمل صورة من صور المسيح ، ألا وهى صورته كالسماوى فى هذه الأرض . هذا بالإضافة إلى أنهم كانوا أيضاً يحملون المنارة ويغطونها بغطاء اسمانجونى إشارة للمسيح كنور العالم (يو 8 : 12) أو النور السماوى الآتى إلى هذا العالم . (يو 1 : 9) فكما يقدِّمون المسيح للعالم فى التابوت - أى المسيح بشخصه - فأنهم أيضاً يقدمونه فى المنارة - أى المسيح بنوره .

والجرشونيون : (أو جرشون وبنوه) كانوا يحملون ضمن ما يحملون بعض الأجزاء من خيمة الاجتماع ، كالغطاء العلوى الخارجى للخيمة . وكان كبيراً (أكثر من 20 متر × 15 متر) وكان يُصنع من جلود التُخَس وهى حيوانات بحرية كالدرفيل أو فرس النهر (سيد قشطة) جلدُها سميك وغير جذَّاب إشارة للمسيح منظوراً إليه من العالم كمن "لا صورة له ولا جمال" (اش 53 : 2) . فالجرشونيون يحملون بعض الاجزاء ، لكن الجزء الأكبر من الحمل كان جلود التُخَس . (إذ أنها بهذا القدر تحتاج إلى أكثر من ثلاثين رجلاً يحملونها ويسيرون بها إذ قدَّرنا للرَّجل عشرة أمتارٍ مسطحة يحملها) . أى أن غالبيتهم يحملون هذه الجلود . فالطابع الغالب للجرشونيين هو تقديم المسيح كالغريب والمرفوض من هذا العالم . فالجرشونيين ليس عليهم الطابع الاسمانجونى كالقهاتيين بل طابع جلود التُخَس الخشنة . فهم يحملون صليب المسيح وطابع المسيح فى غربته ورفضه من هذا العالم . هؤلاء يكونون غرباء ، أحياناً فى المجتمع فتحتقرهم العامة (عكس القهاتيين) ، وأحياناً فى عملهم فينبذهم زملاؤهم ، وأحياناً فى بيتهم فيُعاملون فيها كغرباء لا أحد يلتفت إليهم أو يعتبر لكلامهم بل ربما عنَّفهم أهل بيتهم كما فعلت مرثا بمريم ، وأحياناً للأسف الشديد بين إخوتهم المؤمنين  . فلا يوجد من يفهمهم أو يُقدِّر ظروفهم بل على العكس ربما يلقون معاملة جافية أو قاسية من إخوتهم المؤمنين (شأنهم شأن سيدهم فى زمان رفضه).

أما المراريون : (أو مرارى وبنوه) فكانوا يحملون بعض الأجزاء من خيمة الاجتماع . ومن ضمنها الألواح وكانت 48 لوحاً (رمز المؤمنين) . وأيضاً الأوتاد والأطناب (الحبال) ، التى كانت تُستخدم للتثبيت (كرمز لتثبيت المؤمنين) . فهم المتألمون إلى درجة المرار كمعنى اسمهم . لكن خدمتهم كانت التثبيت . . وهل هناك ارتباط بين المرار والتثبيت ؟ نعم .. لقد قال الرب لبطرس "وأنت متى رجعت ثبِّت إخوتك" (لو 22 : 32) . ومتى رجع بطرس ؟ ... لقد رجع بعد أن بكى بكاءً مراً . (لو 22 : 62) فبعد إجتياز المرار كان عليه أن يثبت إخوته .

فالمراريون وقد اختبروا المرار فى حياتهم ، ليست خدمتهم هى تقديم المسيح فى صفته السماوية ، فمن أين لهم بالاسمانجونى ؟ ، ولا حتى تقديم المسيح فى صفته كالغريب فى هذا العالم ، فمن أين لهم بجلود التُخَس ؟ . فليس شرفاً فقط للمؤمن أن يحمل الاسمانجونى ، بل أيضاً حتى حمله لجلود التُخَس يُعَد غِنَى أعظم من كل خزائن العالم . إنه شرف لنا لا أن نقدم المسيح فقط فى صفته السماوية بل إن تقديمه كغريب هو شرف كبير وامتياز عظيم لنا . لكم من أين للمراريين بهذا الشرف ؟ إنهم فى أسفل القاع . لا هم أدركوا الاسمانجونى ولا حتى نالوا شرف حمل جلود التُخَس . لقد طحنهم المرار ، وسحقتهم التجربة وربما كانت تجربتهم مرضاً أو ضيقاً أو فقراً مدقعاً أو ألماً نفسياً أو ظروفاً شائكةٍ يهون الموت أمامها . وربما كانت مزيجاً بين هذا وذاك . لا يهم نوع التجربة بل نتيجتها . وما هى ؟ . إنها المرار . وهذه هى صفة المراريين وطابع حياتهم المستمر أو المؤقت . أما خدمتهم فهى تثبيت المؤمنين والسؤال عنهم وافتقادهم فى ضيقتهم واعتبار أن ضائقة هؤلاء الإخوة هى ضائقة لهم . إنهم بذلك ينفذون قول الرسول "اذكروا المقيَّدين كأنكم مقيَّدون" (عب 12 : 3) ولا أريدك أن تنزعج من قول الاطباء بأن أيامك ستنقضى فوق كرسى متحرك ولا من قولى بأن هناك مؤمنين طابعهم المستمر هو المرار ، ذلك لأنى لم أصل إلى نهاية الكلام ولا إلى المعونة المقدَّمة لكل نوع من الأنواع الثلاثة . وهذا يأتى بنا إلى النقطة الثالثة .

 

 

ثالثاً : التقدمات المعطاة لبني لاوي

وترمز إلى المعونات المقدَّمة لكل نوع من المؤمنين . لقد طلب موسى إلى رؤساء اسرائيل أن يقدموا لبنى لاوى ست عَجَلاَت واثنى عشر ثوراً ، لجرَّ هذه العجلات ، ثورين لكل عَجَلَة . وكنا نظن أن توزيع هذه العَجَلاَت والثيران سيكون بالتساوى على بنى لاوى الثلاثة فيأخذ كل منهم عَجَلَتين وأربعة ثيران لكن من قال هذا ؟ . هل كانت مسئولياتهم واحدة ، أو أحمالهم واحدة ، حتى تكون المعونة واحدة ؟ هل من يحمل الاسمانجونى كمن يحمل جلود التُخَس كمن لا يحمل شيئا سوى المرار ؟ كلا . أم لعلّ عند اللّه ظلماً ؟ حاشا . (رو 9 : 14) لذلك نرى أن توزيع هذه التقدمات كان كالآتى :

فبنو قهات : كان يكفيهم شرفاً أن يحملوا التابوت ويكفيهم شرفاً أن يغطونه بالاسمانجونى . لذلك فلم يكن لهم شئ من التقدمات . إذ قد أخذوا كل شئ فى تقديمهم للمسيح فى صفته السماوية . وهذا يكفيهم.

وبنو جرشون : كان نصيبهم عَجَلَتين وأربعة من الثيران . وهى تقدمة تتناسب مع خدمتهم . لقد أخبر الرب المؤمنين بأنهم سيكونون غرباء فى هذا العالم ، وهذا أمر طبيعى بالنسبة للمؤمن ، قال عنه الرب »إن كانوا قد اضطهدونى فسيطهدونكم« (يو 15 : 20) . لذلك فإن التقدمة لبنى جرشون كانت تقدمة طبيعية إذ أنها تُساوى ثُلث التقدمة الكلية وهذا هو الحساب الطبيعى . فالمسئؤلية متوقعة وبالتالى فهى عادية وطبيعية والمعونة بدورها عادية وطبيعية .

أما بنو مرارى : فكان نصيبهم أربع مركبات وثمانية ثيران لماذا ؟ لأن خدمتهم كانت غير طبيعية . إذ تتميز بالمرار والتعب فهم يحملون الألواح (48 لوحاً - بطول 5.50 متر وعرض .77 متر تقريباً للَّوح الواحد . أى بحجم يزيد عن المتر المكعب فإن أضفنا إليه وزن الفضة وكانت 90 كيلو جراماً لزاد وزن اللوح عن الطن بخلاف وزن الذهب) . وبالإضافة لحمل هذه الألواح فقد كان على المراريين دقُّ الأوتاد وشدُّ الحبال وفى ذلك كله رمز لحمل المؤمنين والاشتراك فى أثقالهم وتثبيت من يضعف منهم . الأمر الذى ناء بثقله موسى نفسه فى يومه ، حتى أنه قال "العلى حبلت بجميع هذا الشعب أو لعلى ولدته حتى تقول لى احمله فى حضنك كما يحمل المربى الرضيع .." (عدد 11 : 11 ، 12) . لذلك فإن التقدمة للمراريين كانت تقدمة غير عادية والمعونة فوق العادية . وهذا ما نراه فى شخص كالرسول بولس ، الذى حمل ضمن ما حمل هذه الصفة المرارية ، إذ أن ملاك الشيطان لازمه دون مفارقة ليلطمه وبصفة مستمرة . (2كو 12 : 7) . وكانت خدمته (من ضمن خدمات كثيرة) هى حمل المؤمنين وتثبيتهم . إذ قال "كنا مترفقين فى وسطكم كما تربى المرضعة أولادها ، هكذا .. كنا حانين إليكم .." (1تس 2 : 7 ، 8) . وأيضاً ".. التَّرَاكُمُ عليَّ كلَّ يوم . الاهتمام بجميع الكنائس . من يضعف وأنا لا أضعف . من يعثر وأنا لا ألتهب".

فالصفة لبولس من هذه الناحية كانت مرارية بالشوكة وبغير الشوكة .

والخدمة كانت حمل المؤمنين وتثبيتهم.

والمعونة كانت نعمة فائقة أُعطيت له تتناسب مع الشوكة ، وتتناسب مه الخدمة ، بل وتفوق الإثنين .

وهذه المعونة ليست فقط لبولس بل تُعطى أيضاً لجميع الذين لهم نسبة من المرار فى حياتهم .

كما أود أن أقول لك أن خضوعنا لجرعتنا من المرار ليس إختياراً نقبله حباً فى المسيح . نحن نختار حمل الصليب حباً فى المسيح كقوله "إن أراد أحد .. فليحمل صليبه" (لو 9 : 23) . لكن المرار شئ والصليب شئ آخر . فالشوكة على غير ما يفتكر الكثيرون هى بخلاف الصليب . الصليب هو أقرب إلى جلود التُخَس منه إلى المرار . إن قبولنا للصليب وحملنا له يتم بإرادة وبسرور حبا فى المسيح . إن الرسل "ذهبوا فرحين من أمام المجمع لأنهم حُسبوا مُستأهلين أن يُهانوا من أجل اسمه" (أع 5 : 41). لكن لا أحداً يتقبل الشوكة بسرور . صحيح أنه يرضى بها ويُسَرُّ فيما بعد (2كو 12 : 10) . بعد أن يختبر النعمة . لكن فى البداية لا أحداً يقبلها بنفس درجة قبوله للصليب ، وبنفس سرور رفضه من أجل المسيح . وهذا هو الفرق بين الشوكة والصليب .

لقد أخذ بولس الشوكة رغماً عنه وليس إختياراً ارتضاه حباً فى أى أحد . إنه حباً في المسيح خسر من أجله كل الأشياء (فى 3 : 8) وصار غريباً لا يمتلك شيئاً فى هذا العالم . . وحباً فى المسيح صار جرشونياً يحمل جلود التُخَس لكن المرار أو الشوكة أخذها رغماً عنه وليس تضحية منه . وصلى من أجلها ثلاث مرات (2كو 12 : 8).

وهكذا نحن أيضاً يدخلنا الرب إلى عمق المرار رغماً عنا كما أدخل التلاميذ السفينة إلزاماً . لقد "ألزمهم أن يدخلوا السفينة ويسبقوه إلى العَبرِ." (مت 14 : 22) . ولم يكن عبراً فقط للبحر ، قدر ما كان أيضاً إجتيازاً للمرار . وبحور الألم - كتلك التى اجتازت فيها نفس سيدنا - تصغر أمامها بحور العالم (مز 69).

وإلزام الرب المؤمن بالدخول إلى هذه الأعماق هو لحكمة متنوعة . أحدها أن ندرك أبعاد هذا المرار ثم نعود فنثبت إخوتنا . وحتى نتحمل هذا المرار ونكون قادرين على اجتيازه ثم على تثبيت إخوتنا فإن الرب يعطينا نعمة مضاعفة بل وكافية تتناسب مع ، بل وتفوق هذا الحمل الثقيل .

إن أربع مركبات وثمانية ثيران كانت كافية للتخفيف عن كاهلهم من جسامة التَبِعة وثقل الأحمال . وكما تحمل المركبات أصحابها فإن الملائكة تحملنا (مز 91 : 12) بل والرب نفسه كذلك يحملنا على الأذرع الأبدية (تث 33 : 27) وعلى أجنحة النسور (خر 19 : 4) بلا كلل . إنه لا يكل ولا يعيا (أش 40 : 23) . وهذا المعنى (الصبر وعدم الكلل) نرى ما يرمز إليه فى الثيران .

وهكذا تري أن عدة السفر معدة ، والمعونات محسوبة مسبقا ، ومجهزة قبل دخولنا دائرة الألم . وما على المرارى منا إلا أن ينظر إلى الرب "فينال رحمة ويجد نعمة عوناً فى حينه" (عب 4 : 16) وبعد ذلك ينظر إلى إخوته المتألمين فيمد لهم يد المساعدة لتثبيتهم وتعضيدهم وتسنيدهم .

لكن الخطأ هو أن ننظر إلى إخوتنا ، ونقارن أنفسنا بهم ، ولو كانوا أقرب الأقربين إلينا ، ثم نتساءل بعد ذلك "لماذا أنا بالذات" ؟.

ذلك أن لكل مؤمن صفة معينة ، وطابعاً خاصا ، هو مزيج من هذه الصفات الرئيسية الثلاث ، ولكن بنسب تختلف من شخص لآخر . وكما تعلم أن الألوان الرئيسية فى الكون هى ثلاثة ومن مزجها بنسب متفاوتة يخرج مالا حصر له من الألوان . ولا يوجد لون مثل الآخر تماماً .

هكذا يقدم لنا الكتاب ثلاث نماذج أو ثلاث صبغات رئيسية للمؤمنين ، ومن مزج هذه الصبغات بنسب متغيرة نحصل على تركيبة متميزة ، التى هى بالنسبة لكل مؤمن عبارة عن لون لا يتكرر مرتين، ولا يتشابه فيه مع غيره من المؤمنين .

هذه الصفة التى تميز المؤمن أو التركيبة الخاصة به ، أو الوضع الذى يكون عليه هى أمر معروف مسبقا لدى اللّه . وفى خطته الحكيمة أن يصل بكل منا إلى هذه الصفة المميزة فلا داعى للحزن أو للإنزعاج أو الحيرة إذ أنه على قدر نسبة المرار فى هذه التركيبة ، تكون المعونة المعطاة لنا ، وعلى قدر الشوكة تُجزل النعمة وإلهنا حكيم لا يفعل شيئا ليس فى محله . وهذه هى إجابة السؤال . وهى إجابة طويلة لكنها كانت لازمة لى وحيوية ويخيل إليَّ أنها لازمة أيضاً لكل متألم حتى يستودع نفسه بين يدى اللّه الخالق الحكيم الذى خلقنا والذى يشكِّلنا حسب ما يراه فى نفسه من جهتنا . عندئذ يرنم

يا نفسي القي همك

 

المضني علي الإله

ولا تخوري من جرا

 

مصائب الحياة

قومي اطلبي عونا

 

من المخلص المجيد

وحاضري بالصبر في

 

جهادك الشديد

 

 

 

فالآن لا تدرين ما

 

يصنعه الحكيم

بل سوف تعلمين أن

 

رب السماء رحيم

 

الاثنين، 26 سبتمبر 2022

رحمة الله

 

رحمة الله

The Mercy of God

 

" اِحْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ" (مز 136 : 1) , علينا ان نحمد الله جداً علي صفة كمال الطبيعة الإلهية هذه . ثلاث مرات في هذه الآيات العديدة يطلب كاتب المزمور من القديسين أن يحمدوا الرب علي هذه الصفة الرائعة , وبالتأكيد هذا أقل ما يمكن طلبه من هؤلاء الذين حصلوا علي الكثير من وراء هذه الصفة , حين نتأمل في خصائص صفة كمال الله هذه , لا يمكننا إلا أن نبارك الله عليها , رحمته العظيمة (1مل 3 : 6) , "كثيرة" (مز 86 : 5) "بأحشاء" (لو 1 : 78) , "رحمته الكثيرة (الوافرة)" (1بط 1 : 3) , هي " أَمَّا رَحْمَةُ الرَّبِّ فَإِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ عَلَى خَائِفِيهِ، وَعَدْلُهُ عَلَى بَنِي الْبَنِينَ،" (مز 103 : 17) , يمكننا ان نقول مع كاتب المزمور "أَمَّا أَنَا فَأُغَنِّي بِقُوَّتِكَ، وَأُرَنِّمُ بِالْغَدَاةِ بِرَحْمَتِكَ، لأَنَّكَ كُنْتَ مَلْجَأً لِي، وَمَنَاصًا فِي يَوْمِ ضِيقِي" (مز 59 : 16) .

"أُجِيزُ كُلَّ جُودَتِي قُدَّامَكَ. وَأُنَادِي بِاسْمِ الرَّبِّ قُدَّامَكَ. وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ، وَأَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ" (خر 33 : 19) , كيف تختلف رحمة الله عن نعمته ؟ تنبع رحمة الله من صلاحه , الموضوع الأول لصلاح الله هو عطفه أو فضله الذي يعطيه بحريته لمخلوقاته كمخلوقات , وهكذا وهب الوجود والحياة لكل شئ , الموضوع الثاني لصلاح الله هو رحمته , والتي تعني استعداد الله لتخليص مخلوقاته الساقطة من بؤسها , وهكذا تفترض الرحمة وجود الخطية مسبقاً .

رغم أنه من الصعب فهم الفرق الحقيقي بين نعمة الله ورحمته من أول وهلة , فمن المفيد ان نتأمل بعناية في تعاملات الله مع الملائكة غير الساقطين , إنه لم يُظهر لهم الرحمة , لأنهم لم يكونوا في احتياج لها , إذ أنهم لم يخطئوا أو يقعوا تحت تأثير اللعنة , ولكنهم بالتأكيد هم موضوع نعمة الله المجانية القديرة :

أولاً بسبب اختياره لهم من بين كل الجنس الملائكي (1تي 5 : 21) .

ثانياً : بناء علي اختيارهم بسبب حفظه لهم من الارتداد , حيث تمرد الشيطان وسحب معه ثلث أجناد السماء (رؤ 12 : 4) .

ثالثاً : أن جعل المسيح رأساً لهم (كو 2 : 10 , 1بط 3 : 22) , فأصبحوا في أمان أبدي في الحالة المقدسة التي خلقوا عليها .

رابعاً : بسبب المكانة المرتفعة التي أعطاهات الله لهم , ان يعيشوا في محضر الله المباشر (دا 7 : 10) , ليخدموه علي الدوام في هيكله المقدس , ليتقبلوا منه مهاماً كريمة (عب 1 : 14) , هذه هي النعمة الغنية المعطاة لهم لكنها ليست الرحمة .

في سعينا لدراسة رحمة الله كما تقدم في كلمة الله يجب أن نميز أمراً من ثلاثة أوجه . إن أردنا أن "نُفصّل" كلمة الحق بالاستقامة :

أولاً : هناك رحمة الله العامة , والتي تقدم ليس فقط لكل البشر , المؤمنين وغير المؤمنين علي السواء , بل أيضاً للخليقة كلها "الرَّبُّ صَالِحٌ لِلْكُلِّ، وَمَرَاحِمُهُ عَلَى كُلِّ أَعْمَالِهِ" (مز 145 : 9) "هُوَ يُعْطِي الْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْسًا وَكُلَّ شَيْءٍ." (اع 17 : 25) يرحم الله الخليقة الوحشية في احتياجاتها , ويوفر لها المؤن اللازم,

ثانياً : هناك رحمة الله الخاصة , والتي تقدم لبني البشر , فهو يعينهم ويسعفهم , بغض النظر عن خطاياهم , وهو يقدم لهم هم ايضاَ كل ضرورات الحياة , "فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ." (مت 5 : 45) .

ثالثاً : هناك رحمة الله القديرة والمحفوظة لورثة الخلاص , والتي يقدمها لهم في العهد , من خلال الوسيط .

فلنتبع قليلاً اكثر الفرق بين التمييزين الثاني والثالث اللذين أوضحناهما عاليه , من المهم ان نلاحظ ان مراحم الله التي يهبها للأشرار هي وقتية فقط , بمعني أنها محدودة بالزمن الحاضر , لن يقدم لهم رحمة  فيما بعد القبر , "لأَنَّهُ لَيْسَ شَعْبًا ذَا فَهْمٍ، لِذلِكَ لاَ يَرْحَمُهُ صَانِعُهُ وَلاَ يَتَرَأَّفُ عَلَيْهِ جَابِلُهُ." (إش 27 : 11) . لكن عند هذه النقطة قد تطرح صعوبة نفسها علي قرائنا , وهي تحديداً , ألا تؤكد كلمة الله أن "إلي الأبد رحمته" (مز 136 : 1) ؟ لابد من إيضاح نقطتين في هذا الشأن , لا يمكن أن يتوقف الله عن كونه رحيماً , فهذه صفات للذات الإلهية (مز 116 : 5) , لكن ارادته الإلهية تنظم استعمال رحمته , يجب أن يكون الأمر هكذا , فلا يوجد شئ خارج عن ذاته يجبره علي عمل شئ ما , فلو وجد هذا الشئ لأصبح هو الأسمي ,  وتوقف الله عن كونه الله .

إن محض النعمة الإلهية هي وحدها التي تقرر ممارسة الرحمة الإلهية , يؤكد الله علي هذه الحقيقة بشكل مُعبّر في رومية 9 : 15 "لأَنَّهُ يَقُولُ لِمُوسَى:«إِنِّي أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ، وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ»." ليست شقاوة المخلوق هي التي تجعل الله يظهر رحمة , لأن الله لا يتأثر بأشياء خارج ذاته , لو كان الله يتأثر بالبؤس المدفع للخطاة البرص , لكان طهّر وخلّص جميعهم , لكنه لا يفعل ذلك , لماذا ؟ ببساطة لأنها ليست هذه مسرته أو قصده , وبالأحري ليس فضائل المخلوق هي التي تجعله يهب مراحمه عليه , فمن التناقض ان نقول استحقاق الرحمة , "لاَ بِأَعْمَال فِي بِرّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ ­ خَلَّصَنَا " (تيطس 3 : 5) يقف كل منهما علي النقيض من الآخر , ولا حتي فضائل المسيح هي التي دفعت الله ليهب مراحمه لمختاريه , فنحن هكذا نضع النتيجة وكأنها هي السبب , بل "عن طريق" أو بسبب أحشاء رحمة إلهنا أرسل المسيح لشعبه (لو 1 : 78) فضائل المسيح تجعل الله قادراً أن يهب مراحم روحية باستحقاق لمختاريه , بعد ان تم ايفاء عدله بالضمانة ! لا , فالرحمة تنشأ فقط عن مسرة الله السيادية .

مرة اخري رغم أن هذا حق , حق مبارك ومجيد , أن "إلي الأبد رحمته" لكن علينا ان نلاحظ بدقة من هم موضوع إظهار رحمته , حتي الإلقاء بالأشرار إلي بحيرة النار هو عمل من أعمال الرحمة , يجب التفكير في عقاب الأشرار من وجهة نظر ثلاثية الجوانب , من جانب الله هو عمل عدل , لينتقم لكرامته , لا تظهر رحمة الله علي حساب قداسته وبره , من جانبهم , هي عمل إنصاف , حين يتألمون كجزاء عادل علي آثامهم , لكن من وجهة نظر المفديين , عقاب الأشرار هو عمل من أعمال الرحمة التي لا يُنطق بها , كم يكون هذا رهيباً لو كان الوضع الحالي للأمور , أن يُجبَر أبناء الله علي الحياة بين أبناء إبليس , مستمراً للأبد , لن تكون السماء سماءاً فيما بعد لو ظلت آذان القديسين تسمع كلمات الأشرار المجدفة القذرة , كم هي رحمة في أورشيم الجديدة أنه "وَلَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلاَ مَا يَصْنَعُ رَجِسًا وَكَذِبًا،" (رؤ 21 : 27) !.

لئلا يعتقد القارئ أننا في الفقرة السابقة كنا نعتمد علي خيالنا , فلنرجع إلي كلمة الله المقدسة لتؤيد ما قلناه في مزمور (143 : 12) نجد داود يصلي قائلاً "وَبِرَحْمَتِكَ تَسْتَأْصِلُ أَعْدَائِي، وَتُبِيدُ كُلَّ مُضَايِقِي نَفْسِي، لأَنِّي أَنَا عَبْدُكَ." وأيضاً في مزمور (136 : 15) نقرأ ان الله "دَفَعَ فِرْعَوْنَ وَقُوَّتَهُ فِي بَحْرِ سُوفٍ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ" لقد كان هذا عمل انتقام من فرعون وجنوده , لكنه عمل رحمة للإسرائيليين , أيضاً في (رؤ 19 : 1-3) نقرأ "وَبَعْدَ هذَا سَمِعْتُ صَوْتًا عَظِيمًا مِنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ فِي السَّمَاءِ قَائِلاً:«هَلِّلُويَا! الْخَلاَصُ وَالْمَجْدُ وَالْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ لِلرَّبِّ إِلهِنَا،لأَنَّ أَحْكَامَهُ حَقٌّ وَعَادِلَةٌ، إِذْ قَدْ دَانَ الزَّانِيَةَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي أَفْسَدَتِ الأَرْضَ بِزِنَاهَا، وَانْتَقَمَ لِدَمِ عَبِيدِهِ مِنْ يَدِهَا»وَقَالُوا ثَانِيَةً:«هَلِّلُويَا! وَدُخَانُهَا يَصْعَدُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ»." .

مم أشرنا إليه فلنلاحظ كم أ، رجاء الأشرار المزعوم باطل , لكنهم بالرغم من عداوتهم المستمرة لله , لا يزالون يعتمدون علي رحمة الله عليهم , كثيرون من يقولون , لا اعتقد ان الله سيلقي بي في الجحيم , إنه رحيم ولن يفعل ذلك , هذاالرجاء هو أفعي سامة , إن رعوها في أحضانهم ستلدغهم فيموتون , الله إله العدل كما أنه إله الرحمة , وقد أعلن بشكل مُعبٌّر أنه "حافظ الإِحْسَانِ إِلَى أُلُوفٍ. غَافِرُ الإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْخَطِيَّةِ. وَلكِنَّهُ لَنْ يُبْرِئَ إِبْرَاءً" (خر 34 : 7) , نعم لقد قال "اَلأَشْرَارُ يَرْجِعُونَ إِلَى الْهَاوِيَةِ، كُلُّ الأُمَمِ النَّاسِينَ اللهَ." (مز 9 : 17) , وكما أن الناس لا يقولون : "اعتقد انه إن تركنا القذارة تتراكم ومياه الصرف الصحي تركد ويحرم الناس أنفسهم من الهواء النقي , أن الله الرحيم لن يدعهم يقعون فريسة لحمي مميتة" . الحقيقة هي أن من يهملون القواعد الصحية يموتون بالمرض , بالرغم من رحمة الله , وأيضاً بنفس القدر من الصدق , من يهملون قواعد الصحة الروحية سيعاقبون للأبد بالموت الثاني .

الأمر المهيب علي نحو مُخيف هو أن الكثيرين يسيئون إلي صفة الكمال الإلهية هذه , فهم يستمرون في احتقار سلطان الله , ويدوسون علي قوانينه , ويستمرون في الخطية , ثم يطالبون برحمته , لكن الله لن يكون غير منصف لذاته , يُظهر الله رحمته للتائب الحق , وليس لغير التائب "إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ." (لوقا 13 : 3) , أن تستمر في الخطية ثم تتكل علي رحمة الله لينزع عنك الدينونة هو فكر شيطاني , فكأنك تقول "لِنَفْعَلِ السَّيِّآتِ لِكَيْ تَأْتِيَ الْخَيْرَاتُ»؟" ومكتوب عن هؤلاء " الَّذِينَ دَيْنُونَتُهُمْ عَادِلَةٌ " (رو 3 : 8) سيخيب رجاء هذا الزعم حتماً , اقرأ بعناية تثنية (29 : 18-20) . المسيح هو كرسي الرحمة الروحي (غطاء التابوت) , وكل من يحتقرون ربوبيته ويرفضونها "سيبيدون مِنَ الطَّرِيقِ. لأَنَّهُ عَنْ قَلِيل يَتَّقِدُ غَضَبُهُ " (مز 2 : 12) .

لكن لتكن فكرتنا الآخيرة هي عن مراحم الله علي شعبه " لأَنَّ رَحْمَتَكَ قَدْ عَظُمَتْ إِلَى السَّمَاوَاتِ، " (مز 57 : 10) , الغني الناتج عن ذلك يتعدي أكثر أفكارنا سمواً , " لأَنَّهُ مِثْلُ ارْتِفَاعِ السَّمَاوَاتِ فَوْقَ الأَرْضِ قَوِيَتْ رَحْمَتُهُ عَلَى خَائِفِيهِ. " (مز 103 : 11) , لا يقدر أحد أن يقيسها , المختارون هم "آنية رحمة" (رو 9 : 23) , الرحمة هي التي أيقظتهم حين كانوا أمواتاً في خطاياهم (أف 2 : 4-5) , الرحمة هي التي خلصتهم (تي 3 : 5) , رحمته الغنية هي التي ولدتهم لميراث أبدي (1بط 1 : 3) , يعوزنا الوقت لنخبر عن رحمته التي تحفظنا , وتؤيدنا , وتسامحنا , وتسدد احتياجنا , الله هو "أبو الرأفة" لشعبه (2كو 1 : 3) .

"حين أري مراحمك يا إلهي , وتتأمل بها نفسي المشرقة ,

أرتقي بالمشهد وأتوه , في عُجب , وحب , وتسبيح" .

 

 

بقلم :  ارثر بنك