الأربعاء، 21 مايو 2014

روح اخري

روح أخــرى

" وَأَمَّا عَبْدِي كَالِبُ فَمِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَتْ مَعَهُ رُوحٌ أُخْرَى، وَقَدِ اتَّبَعَنِي تَمَامًا، أُدْخِلُهُ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي ذَهَبَ إِلَيْهَا، وَزَرْعُهُ يَرِثُهَا " (عدد 14 : 24) كما ذكرنا فان يشوع وكالب هما الوحيدين من جيلهما اللذين ذكر الكتاب انهم دخلا وامتلكا ميراثهما اما عن الاخرين فنقرأ "قُلْ لَهُمْ: حَيٌّ أَنَا يَقُولُ الرَّبُّ، لأَفْعَلَنَّ بِكُمْ كَمَا تَكَلَّمْتُمْ فِي أُذُنَيَّ فِي هذَا الْقَفْرِ تَسْقُطُ جُثَثُكُمْ، جَمِيعُ الْمَعْدُودِينَ مِنْكُمْ حَسَبَ عَدَدِكُمْ مِنِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً فَصَاعِدًا الَّذِينَ تَذَمَّرُوا عَلَيَّ لَنْ تَدْخُلُوا الأَرْضَ الَّتِي رَفَعْتُ يَدِي لأُسْكِنَنَّكُمْ فِيهَا، مَا عَدَا كَالِبَ بْنَ يَفُنَّةَ وَيَشُوعَ بْنَ نُونٍ وَأَمَّا أَطْفَالُكُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ يَكُونُونَ غَنِيمَةً فَإِنِّي سَأُدْخِلُهُمْ، فَيَعْرِفُونَ الأَرْضَ الَّتِي احْتَقَرْتُمُوهَا فَجُثَثُكُمْ أَنْتُمْ تَسْقُطُ فِي هذَا الْقَفْرِ،" (عدد 14 : 28-32) .
الامر الجدير بالذكر عن هذا ، ان كالب قد اعطي هذا الوعد ، بسبب "روحه" ليس فقط انه كان اميناً في تقديم الحق ، والوقوف في ثبات لما يؤمن به ، لكن لأنه فعل هذا بروح صحيحة . ويذكر دائماً ان روح الامر هو في أهمية الامر ذاته ، كم كثيراً تصرفنا من منطلق الامانه والثبات ، بروح غير صحيحة ، عادة ما يسبب هذا الكثير من الضرر ، وخيبة الامل ، واحيانا حتي التحزب والانقسام بين شعب الله لما هو صحيح في المبدأ ولكن خطأ في الروح (مزمور 32 : 2) يعلن "طُوبَى لِرَجُل لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً، وَلاَ فِي رُوحِهِ غِشٌّ" ونقرأ ايضاً في (امثال 16 : 32) ان روحنا واسلوبنا في غاية الاهمية في الواقع أنه من الاهمية بمكان ان اخر كلمات كتبها الرسول بولس لتيموثاوس بالوحي الالهي كانت "اَلرَّبُّ يَسُوعُ الْمَسِيحُ مَعَ رُوحِكَ" (2تيم 4 : 22) كان تيموثاوس رجلاً يسعي لحياة يحياها للرب في الحق حتي فيما كان يسمي "الايام الاخيرة" (2تيم 3 : 1) كان بولس يشجعه أن "وَأَمَّا أَنْتَ فَاثْبُتْ عَلَى مَا تَعَلَّمْتَ وَأَيْقَنْتَ، عَارِفًا مِمَّنْ تَعَلَّمْتَ" (2تيم 3 : 14) بل اكثر من هذا كان اهتمام بولس انه يستمر ولكن ان يفعل هذا بروح صحيحة . لا مجرد ان يعلم الحق ولكن ان يفعله بروح صحيحة ، ان ليس فقط ما نقوله ولكن كيف نقوله "لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ كُلَّ حِينٍ بِنِعْمَةٍ، مُصْلَحًا بِمِلْحٍ، لِتَعْلَمُوا كَيْفَ يَجِبُ أَنْ تُجَاوِبُوا كُلَّ وَاحِدٍ" (كولوسي 4 : 6)
وعن الرب يسوع نقرأ "وَكَانَ الْجَمِيعُ يَشْهَدُونَ لَهُ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَلِمَاتِ النِّعْمَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ فَمِهِ " (لو 4 : 22) فحتي نبرة صوته كانت كاملة ، ونقرأ بالنبوة "انْسَكَبَتِ النِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ" (مز 45 : 2)
ان تقدير النعمة والاحساس بضعفنا وفشلنا سوف يساعدنا ان نتصرف بروح صحيحة تجاه العالم واخواتنا وعائلاتنا "قَرِيبٌ هُوَ الرَّبُّ مِنَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، وَيُخَلِّصُ الْمُنْسَحِقِي الرُّوحِ" (مز 18:34) و(اشعياء 57 : 15)"فِي الْمَوْضِعِ الْمُرْتَفِعِ الْمُقَدَّسِ أَسْكُنُ، وَمَعَ الْمُنْسَحِقِ وَالْمُتَوَاضِعِ الرُّوحِ، لأُحْيِيَ رُوحَ الْمُتَوَاضِعِينَ، وَلأُحْيِيَ قَلْبَ الْمُنْسَحِقِينَ" بالمقابلة فالروح المتكبرة والمتعالية ستجعلنا نتصلف وتعطينا البر الذاتي مما سوف سيدمر علاقاتنا بالاخرين " اَلْخِصَامُ إِنَّمَا يَصِيرُ بِالْكِبْرِيَاءِ، وَمَعَ الْمُتَشَاوِرِينَ حِكْمَةٌ" (امثال 13 : 10)  " اَلْجَوَابُ اللَّيِّنُ يَصْرِفُ الْغَضَبَ، وَالْكَلاَمُ الْمُوجعُ يُهَيِّجُ السَّخَطَ" (امثال 15 : 1) قد نكون واضحين بشفافية كالثلج ولكن كبرودته ، ثابتين كالصخر ولكن في جموده ، حادين كالحربه ولكن نسبب جرح كطعنتها ، في حدة الموس ولكن نقطع كقطعها في دقة مشرط الجراح ولكن نسبب الجرح .
ليس معني هذا اننا نريد ان نكون مقلقلين في مواقفنا عندما يتعلق الامر بالحق "يع 1 : 18) ان يهوذا 3 يشجعنا علي " أَنْ تَجْتَهِدُوا لأَجْلِ الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ" فعندما يتعلق الامر بالمبادئ ، نحن لا يمكن ان نساعد أي احد وهو يحاول ان يجلس علي سور او يسير في منتصف الطريق أو ننزلق الي حفرة معه .
حقيقة انه عندما يقدم الكتاب ، ان الضمير يجب ان يمس دائماً ولكن يجب التأكيد علي ان الروح يمكن ان تعالج او تقضي علي الامر ، الروح والاسلوب يمكن ان يشجع او يحبط  ، تبني او تهوي ، يمكن ان ترد النفس او تبعدها بعيداً ، تستطيع ان تصحح او تهدم وفي النهاية ام تساعد او تعوق .

نقرأ عن موسي (مز 106 : 32-33) "وَأَسْخَطُوهُ عَلَى مَاءِ مَرِيبَةَ حَتَّى تَأَذَّى مُوسَى بِسَبَبِهِمْ لأَنَّهُمْ أَمَرُّوا رُوحَهُ حَتَّى فَرَطَ بِشَفَتَيْهِ"  وكما ذكرنا من قبل ، كان هذا تعدي خطير لدرجة انه اعاقه من دخول ارض الموعد ، فإذا كانت روحنا قد تمررت من امر ما فعله او قاله احد الاخوة ، نحتاج ان نحكم عليه فوراً ، حتي لا يؤثر علي كلماتنا وأفعالنا ، ان الله لا يستخف ابداً بما يقال عن شعبه ، انهم شعبه يحبهم ويرغب في بركاتهم بالرغم من فشلهم .
ونقرأ عن دانيال "فَفَاقَ دَانِيآلُ هذَا عَلَى الْوُزَرَاءِ وَالْمَرَازِبَةِ، لأَنَّ فِيهِ رُوحًا فَاضِلَةً" (دانيال 6 : 3) ويجب ان نشتهي تقرير كهذا في التعامل مع بعضنا البعض ، تذكر (رو 14 : 7) "لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَعِيشُ لِذَاتِهِ، وَلاَ أَحَدٌ يَمُوتُ لِذَاتِهِ" ان الروح التي نؤدي بها الامور تؤثر علي الاخرين اكثر مما نتصور . "صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ" (اف 4 : 15) أو بحسب الترجمة متكلمين (متمسكين)  بالحق في المحبة ، ويجب ان نتسم بهذا دائماً ، ويجب ان نظهر في كل الأوقات " ِرُوحِ الْوَدَاعَةِ " (غل 6 : 1) كما كان الرب يسوع المسيح بحسب (مت 11 : 26) " لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ "  .
وربما قد لا نظهر روح صحيحة في تعاملاتنا مع بعضنا البعض ، فيا ليتنا نصلي مع داود (مز 51 : 10) " وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي " .
" وَأَمَّا أَنْتَ، فَلِمَاذَا تَدِينُ أَخَاكَ؟ أَوْ أَنْتَ أَيْضًا، لِمَاذَا تَزْدَرِي بِأَخِيكَ؟ لأَنَّنَا جَمِيعًا سَوْفَ نَقِفُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ، " (رو 14 : 10)  نلاحظ  هنا ان هذا الفصل يحدثنا عن ترك الحكم امام كرسي المسيح وهنا القرينة مرتبطة بالروح او التوجه القلبي لأن الله يقدر الروح التي من خلالها نقوم بعمل الاشياء وهو سيكافئ تلك الروح في يوم المكافأة ،  واعتقد ان كالب لم يكن يعلم ان هذا سيسجل عنه في السجل الالهي الابدي لتشجيعنا وتعليمنا ، لقد كانت "مَعَهُ رُوحٌ أُخْرَى " .


 james Hyland

السبت، 10 مايو 2014

الانفصال

الانفصال في الكتاب المقدس


إن الحق المختص بالانفصال يمكننا أن نوليه الأهمية العظيمة إذا عرفنا أنه موجود في أول صفحة من أسفار الكتاب, فنقرأ في تكوين 1: 4 "وفصل الله بين النور والظلمة". هذا هو حق الانفصال. ومن المفيد لنا أن نتأمل هذا العدد. فسفر التكوين هو "المشتل أو الوعاء الذي يجمع بذار الكتاب" وبذرة كل حق تتخلل أسفار الكتاب كلها. وكم هو أمر مُلذ لنا أن نتعلم أن الانفصال هو أولى الحقائق التي يستحضرها الكتاب أمامنا, كما نجدها في الإصحاحات الأخيرة للسفر الأخير من الكتاب حيث يُستعلن الانفصال الأبدي والنهائي للمُخلّصِين عن الهالكين.
إنه موضوع يستحق منا كل اهتمام وتقدير واجتهاد, فرغبة كل واحد من أولاد الله الحقيقيين أن يفعل إرادة أبيه. وأحياناً لا تسير هذه الرغبة كما يجب أن تكون, لأن الطبيعة القديمة فينا تستاء من الانفصال وتتعلق بالأشياء القديمة. إنه قول صحيح ما نسمعه إن المرء متى خلص فإنه سُلِب من هذا العالم. ومتى حاول المؤمن أن يستمر في مسرات العالم وطرقه فإنه لا يقدر أن يستمتع كما كان يفعل ذلك في الأيام التي سبقت تجديده. إنها حقيقة بالنسبة إلى حياته الجديدة وطبيعته الجديدة, شخص منفصل كما أن النور منفصل عن الظلمة. وروح الله القدوس يسكن أجساد المؤمنين ويسكب محبة الله في قلوبنا, أما إذا سمحنا للخطية أن تجد مجالها فإنه يحزن ويجعلنا غير سعداء حتى نعترف بها "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم" 1 يوحنا: 9. وهذا هو السبب في أن المؤمن الحقيقي لا يجد مسرته في العالم كما كان قبل أن يخلص.
والانفصال يبدأ عندما يخلص المرء, لأن الله يفصل المؤمن عن العالم الذي هو تحت الدينونة. وموقف العالم من هذا المؤمن " خذوه بعيداً مع المسيح" وهكذا يُعلّق الاتهام فوق رأسه أنه من أتباع المسيح المرفوض منهم.فعندما يقبل المرء الرب يسوع المسيح كمخلصه فإنه يتقدس أو ينفصل للمجد مع المسيح الذي في السماء. "الذي يؤمن به لا يدان, والذي لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد" يوحنا 3: 18. ونحن كمؤمنين قد أحضرنا إلى مركز جديد. فنحن لسنا من العالم (يوحنا 17: 16) بل بالحري مرتبطين بالسماء حيث مواطنتنا وآمالنا تتركز هناك (فيليبي 3: 20 و21). ومركزنا هنا قريب الشبه بالسفير الذي يمثل بلداً آخراً (2 كو5: 20 و21) طالبين الخير والبركة للجميع, فمع أننا في هذا العالم ولكننا لسنا منه. وعلينا أن نُظهِر اللطف والمحبة لغير المخلصين عندما نحذرهم بوقوع القضاء الآتي ونطلب منهم أن يقبلوا الرب يسوع كمخلصهم. ونحن ننتظر مجيء المسيح لكي يأخذنا إلى بيتنا في العلا. عندئذ سننفصل انفصالاً تاماً عن هذا العالم إلى الأبد. فياله من إنقاذ مجيد سيتحقق.
ونقرأ أيضاً في عبرانيين 10: 10 "فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة". والفكرة هنا ليست الانفصال عن العالم كنظام (الذي كنا نتكلم عنه الآن), بل بالحري مركز المؤمن في ارتباطه بالنظام الديني وطقوس العبادة تحت الناموس. هنا نجد أن موت المسيح يفصلنا عن كل الطقوس اليهودية, التي هي "ظل الأمور العتيدة". ومع أننا لسنا عبرانيين, ولكن من الأهمية لنا أن نتأمل هذا الجزء مصلين, لأن الأنظمة الدينية المسيحية اليوم تحاكي في جزء كبير منها اليهودية, ومكاننا - بالنظر إلى هذا- يتضح في هذا العدد: "فلنخرج إذاً إليه خارج المحلة حاملين عارة" عبرانيين 13: 12. ولهذا فإنه بموت المسيح لم ننفصل فقط عن مسرات العالم والخطية, بل من خلط اليهودية بالمسيحية في تلك الأنظمة الدينية.
وبعد أن تحدثنا بإيجاز عن الانفصال من زاوية المركز, فلنأخذ الآن الجانب العملي منه: كان الرب يسوع قد صلى لأجل خاصته في صلاته الكهنوتية العظيمة: "قدسهم في حقك, كلامك هو حق" يوحنا 17: 17. وصلى الرسول أيضاً لأجل مؤمني تسالونيكي بهذه الكلمات: "وإله السلام نفسه يقدسكم بالتمام ولتُحفَظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح: 1تس5: 23. عالمين أننا قد انفصلنا عن عالم تحت الدينونة, وانفصلنا للسماء, وهذا بالضرورة سيؤثر على حياتنا. فإن كنا غير مرتبطين بهذا العالم فلا يجب أن نتصرف كما كنا قبلاً. "ولا تشاكلوا هذا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة" رومية 12: 2. إن حياتنا كلها ومسراتنا وسيرتنا ومظهرنا وكل شيء يجب أن يُظهِر أننا مرتبطون بالمسيح وبالسماء. وعندما نتحدث عن الانفصال ثم نطلب مكاناً في أنظمة العالم فهذا يجعل انفصالنا له مظهر خارجي فقط وليس حقيقياً. فإذا كنا نلاحظ ونجري نحو مُتَع العالم ونتغذى على حماقاته ونتابع حكمته لأجل مسيرتنا في هذه الحياة فإننا نتشبه بالعالم.
إن الانفصال الحقيقي هو عمل إلهي في القلب, ليس هو مجموعة قوانين ولكنه شخص المسيح المبارك أمام القلب. إنه يملأ القلب فيوجه أرجلنا لكي تتبعه. لقد سار هنا مرة قبلنا كالشخص المرفوض. وكان لا يزال هو الشخص المنفصل حقاً- وهو الآن في المجد- رئيس خلاصنا, ليأتي بأبناء كثيرين إلى ذات المجد. فإذا كان الانفصال هو عمل خارجي فقط فإنه يقود إلى الكبرياء والاكتفاء بالذات- وهذا شيء بغيض لدى الله. إن الانفصال الحقيقي ينتج من محبة المسيح التي تحصر القلب. وهذا يجلب له الرضى والسرور. إن الانفصال أولاً يكون للمسيح ثم لكل شيء لا يُسره "وهذه هي الغلبة التي لا تغلب العالم إيماننا" 1يوحنا5: 4.
وفي هذا الصدد نتذكر ما قاله واحد: إن الحالة العالمية معناها أن تصبح بلا قلب من نحو المسيح- ذاك الذي فدانا لنفسه بدمه الغالي الثمين. إنه "بذل نفسه لأجل خطايانا لكي ينقذنا من العالم الحاضر الشرير بحسب إرادة الله وأبينا" غلاطية 1: 4, والآن وهو في المجد قد خطب كنيسته لنفسه كعذراء عفيفة (2كو11: 2). ولكن يؤسفنا القول بأن الكنيسة والعالم غالباً ما وُجِدتا تسيرا جنباً إلى جنب. وكم كان محزناً لعريسنا السماوي الذي يرغب أن تكون عواطفنا تعلو فوق كل شيء بخلافه. "فمن أراد أن يكون محباً للعالم فقد صار عدواً لله" يعقوب4: 4. ولا يجب أن يُفهَم كأننا موضوعون تحت ناموس معين عندما نتكلم عن الانفصال. ألم يقل الرب يسوع "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي" يو 14: 15. وهذه ليست عبودية, إنها "ناموس الحرية" لكل قلب يتمتع بمحبته. فالإنسان الجديد يُسَّر بالطاعة.

 

 

 

الانفصال عن المؤمنين


تحدثنا بشأن الانفصال عن غير المؤمنين وعن الأوجه المتنوعة الواردة في 2كورنثوس6, ولكن نأتي الآن إلى مسألة سلوكنا بين أولاد الله. إننا نتكلم حقاً بكل انكسار, متحققين من الحالة الخربة لكنيسة الله وأننا جميعاً مشتركون بقدر ما في هذه النتيجة. ولا أحد فينا يمكنه أن يرفع رأسه متعالياً على الآخر, فحكم الله هو "لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه" 1كو1: 29. ولكن الله رسم لنا- على الرغم من هذه الحالة- في كلمته طريقاً لنسلك فيه, فمن جهة أمانته لا يفشل مهما عظم الفشل وازداد الانحراف في كنيسة الله. والسؤال هنا ماذا علينا أن نفعل عندما نرى شخصاً "مدعواً أخاً" يعيش في الخطية وهو لا يبالي؟ هل علينا أن نستمر معه لأننا نظن أنه مُخَلّص مع أن عيشته تهيمن الرب ؟ إننا نجد هذا السؤال في 1كو5. إذ نقرأ عن شخص كان يكسر الخبز ليذكر الرب في كنيسة كورنثوس, ولكنه كان يعيش في خطية علنية. وقد استخدم الروح القدس الرسول بولس في هذه المناسبة ليعطينا المبدأ التعليمي الذي نتصرف به في مثل هذا الموقف. إنه يُعَلّم الكنيسة أن تعزله من وسطها, ويخبر المؤمنين في كورنثوس بألا تكون لهم شركة معه ولا يؤاكلوه (أو يأكلوا معه). إنه يجب عليهم أن ينفصلوا عنه لسيره في طريق الشر. ومن المحتم بأنه لو لم تعزل الكنيسة في كورنثوس هذا الإنسان من بينها فلا بد أنهم كانوا قد اختمروا بالشر الذي سمحوا به, لأن "خميرة صغيرة تخمر العجين كله" (1كو5: 6). غير أن هناك جماعات مختلفة لا تتصرف هكذا. ويقولون ليس علينا أن نحكم, بل ليحكم كل مؤمن على نفسه. هذا القول صحيح من جهة ذلك- أن المؤمن الحقيقي يدين نفسه قبل أن يذكر الرب في موته (1كو11: 28-32), ولكن هذا لا يعفي الكنيسة من مسؤوليتها لكي تحكم على الشر, بحسب مل جاء في 1كو5: 11-13. لتتنقى منه. فإن لم تفعل ذلك فسيتنجس الجميع بهذا الشر ويصبحون عجيناً مختمراً. قد يكون هناك فرد ما في جماعة معينة يتصف بالإخلاص والغيرة والإيمان الصريح والعيشة التقوية ولكنه مختمر بالشر الموجود فيها, فإن بقي في مكانه دون أن يحكم على الشر يصبح مسئولاً إما أن "يتجنب الإثم" أو يصبح مشتركاً في هذا الشر الظاهر غير المحكوم عليه في هذه الجماعة. وتلك نقطة هامة يجب أن تُؤخذ في الاعتبار.
هذه النقطة تأتي بنا إلى جزء كتابي آخر بصدد الانفصال في 2تيموثاوس2: 15-22 ولا نجد في هذا الجزء الشر الأدبي بل بالحري الشر التعليمي. فالبعض قد نادى بأن "القيامة قد صارت" وبذلك فإن أساسيات الإيمان تُهاجَم. فهل كان على هؤلاء الذين يرغبون في إرضاء الرب أن يستمروا معهم؟ وعندما يوصيهم الرسول بما يعلموه فإنه يقارن المسيحية ببيت كبير به آنية للكرامة وآنية للهوان. وجميع الذين في هذا البيت الكبير من المسيحية يستغلون اسم الرب والبعض منهم هم أواني الهوان لأن التعاليم التي يُعَلِّمونها تهين المسيح وعمله. فإذا أراد أحد أن يكون إناء للكرامة فأي طريق للطاعة يجب عليه أن يسلك؟ إنه لا يقدر أن يترك "البيت الكبير" وهذا صحيح, ولكنه يستطيع أن يُطهِّر نفسه بالانفصال عن أواني الهوان. ويقال له أن "يتجنب الإثم". فربما يكون شخص ما يُعَلِّم تعاليم شريرة وهو مؤمن حقيقي. إذ "يعلّم الرب الذين هم له", ولكن هذا لا يُبَدِل من مسئولية الذي يريد أن يكون طائعاً, فلننفصل عن الذين يحتضنون تعاليماً شريرة, وإذا فعلنا ذلك فسننفصل بالضرورة عن مؤمنين حقيقيين لأنهم اختاروا البقاء في أماكن بها شرور تعليمية أو أدبية, وهم يشعرون أنهم قادرون أن يفعلوا أشياء حسنة. ولكن الشخص الطائع الذي ينفصل يُقَدِّر ولاءه للمسيح أكثر من ولائه لأصدقائه وأكثر من خدمته. فالانفصال لا يجعله يقيم روابط مع ما يخالف الكتاب. إنه الآن "مستعد لكل عمل صالح" فيالها من حرية مفرحة حقاً.
صديقي المؤمن: ليتك تتأمل هذا الأمر جيداً, فإن كانت لك روابط مع أناس تخدم أو تعبد معهم, وهم يدمجون الحق بالباطل فعلينا أن ننفصل عنهم. لا يهم إن كان البعض من هؤلاء مؤمنين ممتازين, فإننا دعينا للطاعة.إننا بكل يقين نحب كل أولاد الله الحقيقيين الذين في تلك الأماكن ولكن الأمانة للمسيح تأتي أولاً.
وإذ نخرج من دوائر التشويش منفصلين (وهذه دعوة فردية) فإن المؤمن الطائع سيجد آخرين قد سمعوا ذات الدعوة, "إن طهّر أحد نفسه من هذه", ومع هؤلاء يستطيع أن يعيش في شركة. إنه سيجد آخرين "يتبعون البرّ والإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقي". إنه لا يكون بمفرده لأن روح الله يدّرب آخرين أيضاً ويجمعهم من هذا التشويش إلى الاسم الغالي لربنا يسوع المسيح. إنه أمر بسيط وواضح, وتعزية حقيقية للقلب الذي انحصر لإتباع الرب بالطاعة.
وأمامنا الآن أيضاً ثلاثة أجزاء كتابية نرغب أن نتأمل فيها بالارتباط بموضوعنا: متى18: 20, 1كو10, أف4: 3و4. ومن المهم أن نرى أن الكنيسة ليست هي مجموعة من المؤمنين اجتمعوا بحريتهم الشخصية, ولكنهم قد جُمِعوا بالروح إلى اسم الرب يسوع. ويمكن لأي مجموعة أن تقيم مائدة مستقلة وتختار أي اسم أو حتى اسم الرب يسوع المسيح ولكن ليست هذه وحدانية الروح. بل إنها الاستقلالية. في1كورنثوس10: 17 نتعلم أن الرغيف الواحد الذي على مائدة الرب هو رمز لجسد المسيح الواحد الذي نجد فيه كل مؤمن في العالم يسكن فيه الروح القدس أنه عضو في ذلك الجسد. وهذا يغلق تماماً فكرة الاستقلالية. هناك جسد واحد وعلينا أن نجتهد "في حفظ وحدانية الروح برباط السلام".
وكما رأينا في كلمة الله ضرورة الانفصال عن غير المؤمنين, وعن الشرور الأدبية, وعن الشرور التعليمية. ولكن السير بمبدأ الاستقلالية حتى لو كنا صحيحين في الإيمان وفي التقوى, فليس هذا طريق الرب. هناك مجموعات مستقلة من المؤمنين لها أسماء متعددة وربما لها اسم الرب يسوع المسيح- كما أشرنا قبلاً- ولكن ليس هذا هو الطريق الكتابي للاجتماع. فالكنيسة الحقيقية تشمل جميع المؤمنين وهي جسد واحد. هذا الحق مُعَبَّر عنه في مائدة الرب. والشخص الذي يريد أن يكون بحق للمسيح يجد أنه لا يمكن أن يكون في شركة مع الجماعات المستقلة حتى لو ضمّت مؤمنين حقيقيين (2تس3: 14و15). إنه سلطان الرب وليس الترتيب البشري الذي يجب أن يُعتَرف به في وسط أولئك المجتمعين إلى الاسم الغالي لربنا يسوع المسيح. فقد يكون هناك ضعف شديد ظاهراً- أكثر من الاجتماعات البشرية- ولكن هذا يختبرنا إن كنا نرغب مع وجود القوة اليسيرة أن نحفظ كلمة المسيح ولا ننكر اسمه (رؤيا3: 8).
والمجموعات المستقلة من المؤمنين حتى الذين لهم قدر كبير من الحق, فإنهم آجلاً أم عاجلاً سيتحولون إلى التنظيم البشري والخدمات المرتبة والموسيقى الدينية وكثير من الأشياء المقتبسة من اليهودية. فإن لم نرَ الحق المختص بالكنيسة باعتبارها جسد المسيح, والتعبير عنها في كسر الخبز, فإننا نميل إلى استخدام الوسائل الجسدية لجذب الناس معاً بدلاً من الاعتماد على روح الله الذي يجمعهم. هذه هي اليهودية التي فيها "قدس عالمي" عب9: 1. إن الإنسان تحت التجربة. وقد أعطى الله هذه الأشياء التي تُسِّر الطبيعة الدينية لتمتحنه. في اليهودية كان المخلصين وغير المخلصين يعبدون معاً, إذ لم يكن يتطلب الأمر من الإنسان أن يولد ثانية لكي يتمتع بهذه الطقوس الدينية والموسيقى الدينية. وعند الصليب كان أولئك الذين لهم هذه المظاهر الدينية هم الذين رفضوا وصلبوا ماسياهم. ولذلك فإن الله قد طرح جانباً ترتيب الأشياء القديمة المدعوة "المحلة", ودعا خاصته أن يخرجوا خارجاً إلى المسيح المرفوض حاملين عاره (عب13: 12). ليتنا ننتبه إلى دعوته ونقدّر مكان وامتياز اجتماعنا كأعضاء جسد المسيح لنتذكره بحسب الطريق الذي اختاره حتى يجيء.
وفي كتابة هذه السطور يتحقق المرء أنه شيء خطير أن نتكلم عن الانفصال. وبالتأكيد فإنه لا يقدر أي مؤمن أن يفتخر على أخيه بأنه أفضل منه, بل يمكنه أن يقول: "بنعمة الله أنا ما أنا" 1كو15: 10. والله يخبر شعبه إسرائيل أن كثيرين ممن يسيرون بتهاون يقولون: "قف عندك. لا تدنُ مني لأني أقدس منك" أش65: 5 إن هؤلاء دخان في أنفه. فعلينا أن نتضع أمام الرب بسبب فشلنا المتكرر ونقائصنا. ولكن كل هذا لا يغير كلمته, ولا طريق الطاعة البسيطة. نحن نجتهد أن نسير بالانفصال لا لأننا نظن أننا أفضل من الآخرين, بل لأننا ندرك جيدً أننا نحتاج إلى قوته الحافظة لنا. إنه وعدنا فقط أن يحفظنا في طريق الطاعة, والادعاء بأن نسلك في عدم الطاعة هو ادّعاء بأننا قادرون أن نحفظ أنفسنا.
ونحن نستودع هذه الأجزاء الكتابية التي توقفنا عندها والملاحظات التي أبديناها للقارئ طالبين منه أن يقرأها في روح الصلاة. وليتنا نكون مثل البقية في أيام عزرا 8: 21 "لنطلب منه طريقاً مستقيمة لنا ولأطفالنا ولكل ما لنا". وسنجد أن الطريق يقودنا إلى الانفصال من كل ما يهين ربنا المبارك ومخلصنا. ليتنا نفكر فيما احتمل لأجلنا ليجعلنا شعباً لنفسه, وقلوبنا ستنحصر بسرعة في تلك المحبة المنقطعة النظير لنتبعه, الذي قال: "قدسهم (أو افصلهم) في حقك كلامك هو حق" يوحنا17: 17.

جوردن هاي هو



الأحد، 6 أبريل 2014

الراحة الحقيقية

الراحة الحقيقية
 "ثم تحولنا وارتحلنا إلى البرية على طريق بحر سوف كما كلمنا الرب ودُرنا بجبل سعير أياماً كثيرة" (تث 2 : 1)
وما أجمل لفظ «نا» هنا، فموسى يشرك نفسه مع الجماعة، وهو مع يشوع وكالب الثلاثة قد رجعوا إلى البرية مع الجماعة كلها غير المؤمنة، وهذا في نظر الإنسان الطبيعي ربما يعتبر قساوة، ولكنه في الواقع كان خيراً وبركة، ولا يوجد أحسن من الخضوع لإرادة الله ذلك الخضوع المقترن ببركة الرب دائماً أبداً.  وإن كنا في أوقات كثيرة لا نستطيع أن نرى الأسباب أو نعرف مجريات الأمور التي تستلزم الخضوع الكامل لإرادة الرب.  ومع أن موسى ويشوع وكالب كانوا على تمام الاستعداد للذهاب لأرض الموعد، ومع ذلك لم تَبدُ من عبيد الرب الثلاثة الكرام كلمة تذمر أو أنين بسبب عودتهم إلى البرية ليتغربوا فيها مدة مديدة، وقد انصاعوا لأمر الرب وحسناً فعلوا، لأن يهوه العظيم قد تنازل وتحوّل مع شعبه وارتحل إلى البرية.  وكيف كان يخطر ببالهم أن يشكوا أو يتذمروا وقد رأوا عربة إله إسرائيل متجهة نحو البرية، ولابد وأن تكون نعمة الله وصبره، ورحمة الله وطول أناته قد علمتهم أن يقبلوا بفكر مستريح العودة إلى البرية والتغرُّب فيها وأن ينتظروا الوقت الذي عيّنه الرب لدخول أرض الموعد.  ولا يوجد أعظم من الخضوع دائماً والتواضع تحت يد الله القوية.  ومن المؤكد أن هذا التدريب النفيس يؤدي بنا إلى محصول وفير وخير جزيل.  وسر الراحة الحقيقية هو في حمل نير المسيح، وقد أكد لنا السيد ذلك بقوله «تعالوا إليَّ يا جميع المُتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم.  احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم.  لأن نيري هيّن وحملي خفيف».
وما هو هذا النير؟ الخضوع الكامل والمُطلق لإرادة الآب.  وهذا ما نراه مجسماً ولدرجة الكمال في شخص ربنا ومخلصنا يسوع المسيح المعبود المبارك، وقد قال مرة بفمه الكريم «نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرة أمامك».  فأهم شيء عند الرب يسوع مسرة الآب، وكل شيء عنده يُقاس بمقياس هذه المسرة.  وعلى أثر أن رُفضت شهادته وظهر كأن جميع مجهوداته ذهبت عبثاً وقواه صُرفت على غير طائل.  على أثر ذلك كله استطاع أن يقول «أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض» فكل ما يُسرّ قلب الآب، يفرح قلبه هو أيضاً، وما من فكر أو رغبة عنده إلا وهى متفقة تمام الاتفاق مع إرادة الله.
ولذلك تمتع كإنسان بالراحة الكاملة دائماً، وقد استراح في المشورات والمقاصد الإلهية، ولم يضطرب مجرى سلامه من الأول للآخر.
هذا هو نير المسيح الذي يدعونا من فرط نعمته غير المحدودة لأن نحمله لكي نجد نحن أيضاً راحة لنفوسنا، ولنلاحظ بنوع خاص ونجتهد في فهم الكلمات الآتية: «فتجدوا راحة» ولا يجوز لنا أن نخلط بين الراحة التي يعطيها والراحة التي نجدها، فالنفس المُتعبة والمثقلة بالأحمال، بمجرد أن تأتي إلى الرب يسوع بالإيمان الصريح الصادق البسيط، يعطيها راحة وطيدة - الراحة الناشئة عن اليقين التام بالعمل الكامل الذي بمقتضاه قد أُبطلت الخطية إلى الأبد ونالت تلك النفس براً كاملاً.  فالمسيح مات لأجل خطايانا، وقام لأجل تبريرنا وبذلك حُلّت كل المشكلات بطريقة إلهية أبدية، وتمجد الله وأُسكت الشيطان، وهدأ الضمير واستراح تماماً.
هذه هي الراحة التي يعطيها الرب يسوع لنا بمجرد أن نأتي إليه.  ولكن من الجهة الأخرى علينا أن نجتاز الحياة اليومية بكل مناظرها وظروفها، ولابد وأن نُصادف أثناء اجتيازنا تجارب وضيقات وتدريبات وصدمات ومعاكسات وخيبة آمال متنوعة، وهذه كلها لا تستطيع أن تؤثر قط على الراحة التي يعطيها الرب يسوع، ولكنها ربما تؤثر كثيراً على الراحة التي نجدها.
هذه الأشياء كلها لا تُتعب الضمير ولكنها ربما تُتعب القلب كثيراً وتجعله في حالة القلق والفزع والاضطراب، وعلى سبيل التمثيل نقول: إنني دُعيت لأن أعظ في جلاسجو، فلبيت الدعوة وأُعلن عن ذلك، ولكن بالأسف أتى الوقت المعيّن فإذا بي طريح الفراش في لندن.  مثل هذا الظرف لا يؤثر على ضميري ولا يتعبه، ولكن يصح أن يُتعب قلبي ويجعلني غير مستريح، وكأني في حالة الحمى والهذيان، أقول: حقاً إنه لأمر مُتعب جداً مؤدِ إلى الخيبة والفشل.  ماذا أعمل بإزاء هذا الظرف المعاكس غير المنتظر؟
وكيف يليق بنا أن نقابل مثل هذه الحالة؟ وما هى الطريقة والواسطة التي تهدئ القلب المضطرب وتلّطف من حدة الذهن المتقد؟ ما هى حاجتي وأي شيء أريد؟ أحتاج في مثل هذه الحالة إلى الراحة ولكن أين أجدها؟ أجدها إذا طأطأت رأسي وحملت نير المسيح الثمين على كتفي؛ ذلك النير الذي حمله السيد في أيام جسده - نير الخضوع الكامل لإرادة الله.  أحتاج لأن أكون في حالة أستطيع أن أقول فيها من أعماق قلبي وبدون قيد ولا شرط «لتكن مشيئتك يارب» أحتاج إلى شعور حي عميق بمبلغ محبة الله الكاملة من نحوي، وحكمته غير المحدودة في كل معاملاته معي حتى أرضى بما يرضيه في كل شيء، ولا أرغب عنه بديلاً، بمعنى أنه لو كان في مقدوري أن أغير مركزي وظروفي لما أقدمت على تحريك أصبعي نحو ذلك، لأنني متيقن أنه خير لي أن أكون طريح الفراش في لندن عن أن أقف واعظاً في جلاسجو مادامت هذه هى إرادة الرب.
هذا هو سر راحة القلب الثمينة العميقة بالمقابلة مع اضطراب القلب وارتباكه، وهذا السر عبارة عن إمكانية تقديم الشكر القلبي لله في كل شيء مهما كان يخالف إرادتنا الذاتية أو يتعارض مع مشروعاتنا الخاصة، وهذا كله يستلزم التسليم القلبي الصادق بالحق القائل «كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله، الذين هم مدعوون حسب قصده».  ويستلزم أيضاً الشعور الأكيد والتحقق العملي من أن ما يعينه لنا الله لابد وأن يكون أحسن شيء لنا.  وبالاختصار نجد راحة القلب في الاستناد على محبة الله وحكمته وقدرته وأمانته، تلك المحبة التي جعلته يتولى أمرنا ويعتني بنا ويرتب لنا كل شيء ويدبر ما نحن في حاجة إليه في الوقت الحاضر وفي الأبدية أيضاً، ونحن نعلم أن المحبة تبذل أقصى ما في وسعها دائماً لأجل مَنْ تحب، أو على هذا القياس نجد إلهنا قد عمل لأجلنا أعظم ما يمكن عمله، فكيف لا تكتفي قلوبنا بما عمله إلهنا لأجلنا ولازال يعتني بنا عناية لا حد لها تتناسب مع محبته التي لا حد لها.
ولكي يستطيع القلب أن يكتفي ويقنع بإرادة الله، يجب أن يعرف الله أولاً ويختبر صلاحه.  في جنة عدن بعد أن أغوت الحية حواء أصبحت غير قانعة بإرادة الله، فقد اشتهت حواء شيئاً منعه عنها الله، وهذا الشيء تعهد الشيطان بأن يقدمه لها، وقد ظنت حواء أن الشيطان في استطاعته أن يراعي صالحها أكثر من الله، واعتقدت أن ظروفها تتحسن لو نزعت نفسها من بين يدي الله وسلَّمت زمامها ليدي الشيطان.  ولهذا يستحيل على القلب غير المتجدد بأي حال أن يستريح في إرادة الله، وكلما فحصنا القلب البشري ووصلنا إلى أعماقه وأجرينا تحليلاً دقيقاً أميناً لكل مراميه وأغراضه، كلما تحققنا أن القلب غير المتجدد تتنافى أفكاره مع إرادة الله.  ولا يوجد فكر واحد من الأفكار التي تخرج من القلب تتفق مع إرادة الله الصالحة، وحتى أولاد الله المسيحيون بالحق إن لم تَمُت إرادتهم الذاتية بنعمة الله ويحسبوا أنفسهم أمواتاً ويسلكوا بالروح، فغير مستطاع لديهم أن يُسّروا بإرادة الله ويشكروا في كل شيء.  ومن أصدق الدلائل على الولادة الجديدة أن يقول الإنسان من أعماق قلبه بدون قيد ولا شرط وفي كل الظروف التي يسمح الرب أن يُجيزه فيها «لتكن إرادتك» «نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرة أمامك».  وبكل تأكيد لا يستطيع الشيطان أن يؤثر على مثل ذلك القلب الخاضع لإرادة الله.  ومن المهم جداً أن يصل المؤمن إلى حالة روحية فيها يقول للشيطان وللعالم، لا بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحق، وينادي ليس فقط بشفتيه بل بحياته وقلبه: إني راض كل الرضا ومُسلِّم كل التسليم لإرادة الله.
هذا هو طريق الراحة، فيا ليتنا نسير فيه عملياً، بل هذا هو البلسان السماوي لكل انزعاج واضطراب في الحياة، والدواء الشافي لروح التذمر والأنين وعدم الرضى بما قسم لنا، الأمر المُشاهد كثيراً لسوء الحظ في الوقت الحاضر.  وفي الرضى والتسليم لإرادة الله الضمان الكافي لإيقاف تيار حب الشهرة والطموح للرفعة والجاه، ذلك التيار المنافي لفكر المسيح وروحه والمتفق مع أميال ورغائب أهل هذا الدهر.
يا ليت أيها القارئ العزيز تكون لنا الغيرة المقدسة التي تدفعنا لأن ندرب أنفسنا حتى يكون لنا الروح الوديع الهادئ الكثير الثمن في نظر الله، الروح الذي يخضع لإرادة الله الصالحة في كل شيء ويبرر معاملات الله مهما كانت ويحامي عنها مهما كلفه ذلك، وعندئذ يفيض سلامنا كنهر جار ويتمجد اسم ربنا يسوع المسيح في حياتنا وسلوكنا وخصالنا.
وقبل أن ننتقل من هذه النقطة المهمة وهذا الموضوع العملي، يحسن بنا أن نُبدي الملاحظة الآتية وهى: أن هناك حالات ثلاث للنفس بخصوص معاملات الله وهى الخضوع والرضى والابتهاج.  فالنفس تخضع لإرادة الله عندما تنكسر إرادتها الذاتية، والنفس ترضى وتقبل هذه الإرادة الصالحة عندما يستنير الذهن من جهة القصد الإلهي، وتبتهج النفس بإرادة الله عندما تنشغل أميالها وتنحصر أشواقها في الله ذاته.  لهذا نقرأ في الأصحاح العاشر من إنجيل لوقا ما يأتي حرفياً: «وفي تلك الساعة تهلل يسوع بالروح وقال أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال، نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرة أمامك».  فهذا الشخص المبارك وجد سروره الكامل في إتمام إرادة الله من كل وجه، فكان طعامه وشرابه أن يصنع مشيئة الله مهما كلفه ذلك.  وسواء في الخدمة أو الآلام، في الحياة أو الموت كان غرضه الوحيد صُنع مشيئة الله، وقد استطاع أن يقول بحق «لأني في كل حين أفعل ما يرضيه».  لاسمه الأسنى كل سُبح وسجود إلى أبد الآبدين.

ماكنتوش