ولا شك أن كل مؤمن حقيقي ولد من الله قد شعر في وقت ولادته بفرح عظيم وقوة إلهية حلت فيه جعلته لا أن ينتصر علي الخطايا العملية والشهوات كما هي معروفة لديه فقط بل جعلته أيضاً ينتصر علي طباعه وأخلاقه وعاداته الأولي إذ أصبحت مكروهة وممقوته لديه في نور معرفته بالله الذي أصبح شريكاً له في طبيعته الإلهية - وكابن قد ولد منه لا يسر إلا بعمل إرادة الله أبيه .
ولكن هذا الشعور وهذه الحالة ليست إلا إلي حين إذ لابد أن تبتدئ الحرب بين طبيعتي المؤمن في داخله ، ومع أن لنا الوعد من الله بالغلبة علي الجسد وشهواته إلا أننا نقول بملء الحزن وإنسكار القلب إننا مراراً كثيرة ما سلمنا سلاحنا منهزمين أمام شهواتنا ولا يسعنا إلا أن نعترف بأن كل هزيمة قد انهزمناها ليست إلا برهاناً علي وجود ميل فينا ولو بصورة خفية نحو طبيعتنا الأولي وهذا هو سبب إحزان الروح القدس فينا وبالتالي سبب حزننا نحن أيضاً .
هذان هما وجهان من أوجه عمل الله لخلاصنا مبينين باختصار وايجاز : الوجه الأول هو عمله لأجلنا والوجه الثاني هو عمله فينا وهنا نقطة دقيقة نحتاج أن نتنبه لها وهي وجوب التمييز الكلي بين عمل الله لنا وعمله فينا ومعرفة أي العملين أسبق وأيهما الأساس للآخر ، لأن عدم الانتباه والتمييز بينهما قد اقلق ضمائر الكثيرين وعطَّل سلامهم وفرحهم ، لأنهم عوضاً عن أن يجعلوا عمل الله لأجلهم - العمل الذي أجراه في المسيح يسوع علي الصليب كنائب عنهم - هو موضوع إيمانهم وأساس لعمل الله فيهم يعكسون الموضوع ويجعلون عمله فيهم هو موضوع إيمابهم وأساس لقبولهم أمام الله .
فهؤلاء إما إنهم لم يولدوا ثانية لعدم إيمانهم لأنهم لا يقدرون أن يؤمنوا إلا بشعورهم بعمل يتم فيهم ولا يمكن أن يتم فيهم العمل الذي ينتظرونه ويتوقعونه إلا إذا كانوا مؤمنين أولاً بقبولهم أمام الله قبولاً تاماً وأبدياً لا علي أساس ما هم أو ما يمكن أن يكونوا عليه ولو بعمله فيهم بل علي أساس ارتضائه بالعمل الكامل الذي عمله هو في المسيح يسوع إذ أنابه عنهم في احتمال حكم الموت والدينونة "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه" .
وبرهان ارتضائه أنه أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه ، فهذا هو مركزي وهذا هو مقامي الذي أوصلني إليه الله بنعمته في شخص ابنه الحبيب الذي هو صورتي أمامه الآن وفيه يراني في كمال الجمال ، فهم لا يريدون أن يقبلوا عملا عُمِل لأجلهم وخارجاً عنهم ومقدماً لهم ليقبلوه بالإيمان ولكنهم يريدون أن يروا ويشعروا بعمل يتم فيهم أو بهم حتي يؤمنوا وهذه ليست الطريق التي عينها الله للإيمان بل هي طريق العيان لأن الإيمان هو الايقان بأمور لا تري ، أما متي وضعت في نفسي أن لا أؤمن إلا بعد أن أري أو أشعر فهذا ليس إيماناً وهيهات أن أظفر بما أريد .
ولكن مثل هؤلاء قد يكون العامل في ايجادهم في هذه الحالة هو خطأ الكارزين بالانجيل الذين عوضاً عن ان يجعلوا عمل الله في المسيح لأجل الخطاة هو موضوع الإيمان للخلاص والقبول الأبدي وعمله فيهم أي الولادة الثانية وسكني الروح القدس هو نتيجة لإيمانهم وتصديقهم بما عُمِل لأجلهم وما هو إلا تأهيل للذين آمنوا بخلاصهم لأن يتمتعوا بأثمار هذا الخلاص - تراهم قد عكسوا القصد وصاروا ينادون بما هو نتيجة تابعة للإيمان كأنه الأساس للإيمان (أي عمل الله فيهم) .
وهذا هو سبب ارتداد الكثيرين ورجوعهم إلي مثل بل أشر مما كانوا ، متممين فيهم قول الرسول بطرس "قد أصابهم ما في المثل الصادق كلب قد عاد إلي قيئه وخنزيرة مغتسلة إلي مراغة الحمأة" ومثل هؤلاء لا يمكن أن نقول عنهم أنهم قبلوا انجيلاً صحيحاً آمنوا به ثم ارتدوا عنه بل هم في الحقيقة قبلوا ناموساً في صورة انجيل أظهر عجزهم عن حمل نيره فتخلصوا منه برجوعهم عنه .
وكما أن تقديم الانجيل بهذه الصورة هو إحدي علل عدم الإيمان والارتداد في الكثيرين الذين حاولوا أن يجربوا الله تجربة (لأن من لا يستطيع أن يؤمن إلا بعد أن يري فليس هو إلا مجرباً لله) هكذا هو أيضاً سبب زعزعة الكثيرين من المخلصين في أمر خلاصهم وشكهم في إيمانهم وامتلاء نفوسهم بالمخاوف والاحزان - لأني متي جعلت شعوري بالفرح أو نصرتي علي الخطية والشهوات أو قدرتي علي اتمام مشيئة الله وعمل ارادته هي الأساس لإيماني بخلاصي وقبولي أمام الله فلا شك أني لن اتمتع بالسلام الكامل ولن يكون لي يقين الخلاص مطلقاً لأني وأنا في أحسن حالاتي إذا نظرت إلي نفسي وفحصت ذاتي فلن أجد أني قد بلغت المقياس الكامل الذي يؤهلني للقبول أمام الله قبول ابنه الحبيب.
ولكني بالرغم مما أعرفه عن نفسي من عدم مطابقة حالتي التي أنا فيها الآن لذلك المقياس الكامل فإن لي يقين الإيمان بخلاصي خلاصاً أبدياً وقبولي أمام الله قبولاً تاماً لأني لست خالصاً بسبب ما أنا عليه أو ما فيّ ولكن بسبب ذبيحة المسيح التي كفر بها عن جميع خطاياي التي احتمل دينونتها في جسده علي الخشبة وقد دخل الأقداس السماوية بعد أن قام من الأموات وحصَّل ليَّ بموته فداءاً أبدياً . فكما كان نائبي علي الصليب وهناك حمل خطاياي هكذا هو الآن ظاهر أمام وجه الله لأجلي (كممثلي وشفيعي (محامي) بل صورتي الجديدة التي يراني فيها الله) .
بهذا أنا أؤمن وبهذا أثق لا لأني أشعر به بل لأن الله أعلنه لي في كلمته الصادقة ، ومادام الله لا يطلب مني إلا تصديق ما يقول فيكون لي فأنا أختم علي أن الله صادق في ما يقول واحسب نفسي مالكاً لما قد وهبني وان كنت لم أصل إليه الآن ولكني في طريقي اليه "الآن نحن أولاد الله ولم يظهر بعد ماذا سيكون ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو" . وأيضاً "لأنكم متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله متي أظهر المسيح حياتنا حينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد" .
هذا هو الأساس الصخري الراسخ الذي وضعه الله لنؤمن به ومتي كان إيماننا بما عمله الله لأجلنا وبما صاره المسيح لنا (من موقفه علي الصليب الي جلوسه الآن عن يمين الله كمن كنا فيه (في حساب الله) في ظلمة الموت فوق الصليب وفي القبر وفي نور حياة القيامة والجلوس عن يمينه) كان إيماننا ثابتاً بمقدار ثبوت مركز المسيح في قبول الله له ، لأن الله لم يقبله باعتبار ما هو في ذاته واستحقاقه الشخصي (لأن في هذا الاعتبار هو والآب واحد ولم يزل هو الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب منذ الأزل وإلي الأبد قبل وبعد وفي أثناء وجوده علي الصليب وفي القبر أيضاً) ، ولكنه قد قبله الإنسان الثاني - رأس الخليقة الجديدة الذي كفر بموته عن الخطية ونزعها من أمام وجهه تعالي أبدياً .
فكل من يؤمن يستطيع أن يري ذاته في المسيح أمام الله كاملا ومقبولا ، ومكانه من الله هو نفس المكان الذي أجلس فيه المسيح عن يمينه - وإلي هذا المكان - مكان الاعتبار والقبول الأبدي يدعوني الله أن اعتبره مكاني واعتبر نفسي فيه من الآن وذلك من أجل المسيح لا غير ، فهل أنا مؤمن بذلك ؟ ان آمنت وصدقت فهذا هو مكاني من الآن ولي أن أفرح واغتبط وكإنسان قد صدق وآمن بامتلاك مجد كهذا ينكسف أمامه كل مجد العالم فلابد أن أسعي لوصولي إليه ، ولكني أسعي لا لكي استحق الوصول إليه بل لأنه أصبح من استحقاقي فأسعي نحوه .
وحينئذ لابد لي من قوة حياة أركض بها نحو الغرض الموضوع أمامي كغاية رجائي ونهاية آمالي وهذا ما يمدني به الله لأجل وصولي إلي ما هو أمام إيماني ، فإيماني ليس بما فيَّ من حياة أو قوة ولكن بما هو أمامي كغرض قد وضعه الله لي إن صدقته وسعيت إليه وجدت فيَّ قوة السعي بمقدار تشوقي ورغبتي في سرعة الوصول إليه .
وهنا نجد سبباً من أسباب فشل الكثيرين من المؤمنين في الطريق لأنه عوضاً عن أن تكون مشغوليتهم بموضوع هو أمامهم ينشغلون بما هو فيهم من تعزيات و أفراح واختبارات وبما يقومون به من خدمات هنا وهناك ، لذلك تكون النتيجة الحتمية لهذه المشغولية توقفت الحياة والقوة العاملة فيهم من الله . لأن الله لم يعطنا القوة والمواهب والاختبارات مهما كانت سامية لتكون هي موضوع فرحنا واغتباطنا ولئلا نقف عند حد المشغولية والاهتمام بها نري الرب عندما رجع التلاميذ اليه فرحين قائلين يارب حتي الشياطين تخضع لنا باسمك يقول لهم "ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم بل افرحوا بالحري أن اسماءكم كتبت في السموات" (لو 10 : 20) ، فلكي يكون فرحنا ثابتاً ودائماً يجب أن يكون موضوع الفرح أمامنا لا فينا ويجب أن يكون كغرض يجتذبنا إليه لاكغرض قد حصلنا وادركناه ، لأن مشغوليتنا بما هو فينا تلهينا عن النظر إلي ما هو أمامنا فلضلا عن أننا نعتاده فلا نعود نشعر بفرح فيه ، هذا من جهة ومن جهة أخري فإن مشغوليتنا بما هو فينا ينتج عنها توقف في السير إلي الأمام ومتي تعطل سيرنا جفت ينابيع القوة فينا فتجف معها أفراحنا وتعزياتنا وتضمحل اختباراتنا .
(يتبع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق