الأربعاء، 20 ديسمبر 2017

بوكيم موضوع الوقت الحاضر 

خطاب لمستر داربى

إن الإعتراف والمذلة لابد أن تكون هى الحالة التى تميز اولاد الله فى هذه الأيام ، فلا مجد الله ولا إكرام المسيح ولا حضور الروح القدس صار لهم الإعتبار من جهتنا فى هذه الأيام ، بل وأيضاً لم نعد نهتم بأين كنيسة الله وما حالتها على الأرض ؟ 
أنا لا أتكلم هنا على المستوى الواسع للمسيحية ، ولا حتى على المستوى الأضيق فى إنجلترا
أليس هناك ما يُستدعى للمذلة والإعتراف بين هؤلاء الذين فى الدائرة الضيقة التى أكتب إليها ( يقصد جماعة الأخوة وقتها ) ؟  لكن لأجل أى شئ المذلة والإتضاع ؟ ليجاوب كل واحد حيثما يفكر وحيثما يتكلم ولتكن إجابته بإخلاص من نحو الله والمسيح ومن نحو نفسه ، لكنى هنا أجاوب لأجل نفسى ، وليرى الآخرون كيفما يروا
لقد أسلم الرب يسوع نفسه لأجل خطايانا ، لينقذنا من العالم الحاضر الشرير ، إن محبة العالم عداوة لله ، وأن الإنشغال بالأمور الأرضية هو عداوة لصليب المسيح
والآن إن كنت تكلمت عن الله والمسيح لكن ماذا أقول لنفسى ولإخوتى ، هل نحن عمليا وقلبيا وفكريا وفعليا نحيا فى الروح وليس فى العالم ، كما كان المسيح تبارك اسمه يحيا على الارض .
أنا هنا لا أتكلم عن الأشخاص العالميين الذين يعيشون فى العالم ولا حتى عن هؤلاء المسيحيين الذين فى العالم ، بل عن هؤلاء الذين يعيشون فى الأقداس فى عالم الله
لقد كان لبطرس الاكتفاء والاستناد بالذات وفى ذات الوقت الطاقة القوية والمحبة الشديدة لسيده ( حيث كانت تعمل تلك الدوافع مختلطة بقلب غير متضع ) ، وكل هذا قاده ليستخدم السيف ويقطع أذن عبد رئيس الكهنة ، فعندما تقتحم الذات والعالمية الأقداس فإن الوضع المناسب لنا هو أن ندين ونحكم على أنفسنا ونتذلل أمام الرب ، فالغيرة والإخلاص بدون المعرفة وإن كانا صحيحين فى الغرض ، لكنها تجعلنا ندافع عن أخطاء جسيمة بسبب الذات ، ويلاحقها إيضا أساليب مرتبطة بالاكتفاء والإستناد على الذات فى كافة تصرفاتنا
وقناعتى أن حالتنا العالمية وأفكارنا الأرضية أعمت عيوننا وقست قلوبنا ، والتى كان من نتيجتها لم يعد أحد يتعرض للحالة الأدبية التى صارت عليها الكنيسة والتى يحكم عليها بكل إنصاف من مؤمنين كثيرين ، وقليلين فقط لم يعد لهم فكرة عن هذه الأمور التى لا تحصى الحادثة بيننا ، فعواطفنا من جهة المسيح لم تعد حية بما يكفى لندين مثل هذة الإهانات التى تلحق بالمسيح ، وتجعلنا نقف بعيدا وننفصل عنها ، تلك الأمور التى تجعلنا نصادق على الإهانة للمسيح . إن الرب يرفض بشدة إن نستخدم الأساليب العالمية والأفكار البشرية والإدعاء ، كعباءة وغطاء لعواطف قلوبنا الباردة من نحو المسيح وعدم لمعاننا وغيرتنا ، وانفصالنا عن كل مايهين اسمه وإصرارنا ان نعمل بكل حرية بعيدا عن هذه الأمور لمجده 
والآن بينما يتضح لى السلوك الذى يتعارض مع المسيح ، وهؤلاء الذين يندفعوا وراء حريتهم ليفعلوا إرادتهم ، يبقى السؤال ماذا بعد ؟ هل يروا ان كل هذا يعطل ويمنع هؤلاء الاحباء الى قلوبنا وللمسيح أيضا وأن فى هذا أيضا تعدى على كرامة المسيح ؟ ان الإجابة هنا وأقول بكل خشوع ويقين ان ثمار اعمالنا هى نتاج أفكارنا البشرية وحالتنا العالمية ، 
أما من جهتى فلقد صرت أكثر يقين أنه على أن ازداد كل يوم فى السلوك كنذير ، قد يكون للبعض هذا الامر لينفصلوا وقد يكون للبعض شجاعة وجسارة أكثر ، لكن على كل واحد إن يسلك بمفرده
لقد حدث التعدى على كرامة المسيح وصارت الحالة الأدبية للكنيسة متعديا عليها أيضا سواء عن طريق مباشر من البعض أو غير مباشر من الآخرين ، والذين لا يهتمون بما لسيدهم لم يعد فى بالهم فى أن ينفصلوا عن ارتباطهم بهؤلاء الذين يجدفون عليه .
وأنا أدرك هذا المبدأ فإنه طالما لم يحكم القديسين على الحالة العالمية والأفكار البشرية فستكون النتيجة لا محالة هى إحزان الروح القدس وانطفاؤه
إننى أفضل أن إتذلل جدا وأنحنى الى أقصى ما يمكن محتملا الكل بل وأيضاً كل اللوم من الآخرين ، عَلى إن أرتبط بكل ما يفسد الكنيسة أدبيا ، أو أتساهل مع كل مايهين مجد المسيح أو أرتبط بهؤلاء الذين لا يهمهم مجد المسيح ولا الوضع الأدبى للكنيسة ولا وحدانيتها .

٢٣ يناير ١٨٥٧
J.N . Darby

الثلاثاء، 11 يوليو 2017

الرجاء في الأزمنة الصعبة

الرجاء في الأزمنة الصعبة
«وَكَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَصِيرَ النَّهَارُ» (أع27: 29)
«مُنْتَظِرِينَ رَحْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ» (يه21)
 
يا له من ليل يشتد ظلامًا! ليل رفض ربنا يسوع المسيح من العالم، وليل غيابه عنا .. الزمان صعب .. الإثم يتزايد .. كلمة الله مرفوضة .. ابن الله يُهان حتى وسط المسيحية الاسمية .. مبادئ الارتداد تزداد قوة وتأثيرًا .. العالم يُكمل مكيال إثمه لوقوع دينونة الله عليه .. وهوذا «عَلَى الأَرْضِ كَرْبُ أُمَمٍ بِحَيْرَةٍ» .. و«حُرُوبٍ وأَخْبَارِ حُرُوبٍ» .. و«زَلاَزِلُ عَظِيمَةٌ فِي أَمَاكِنَ وَمَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ» .. «وَلنَّاسُ يُغْشَى عَلَيْهِمْ مِنْ خَوْفٍ وَانْتِظَارِ مَا يَأْتِي عَلَى الْمَسْكُونَةِ» .. الفوضى سائدة في كل مكان .. والناس قائمون ضد القوانين والأنظمة .. الثورات والاضطرابات في جميع الأنحاء .. والشرور تزداد بلا خجل ولا حياء .. الكفر والإلحاد والفجور والإباحية تنتشر .. كل القيم الروحية تُهدَّم .. والمسيحية المعترفة – بكل أسف – أثبتت فشلها كإناء للشهادة ومُستودعًا للحق .. ألا ترى التحول عن الله إلى مجرد ممارسة طقوس وفرائض أدخلها الشيطان، وحوَّل بها المسيحية إلى عبادة وثنية واستعباد لأركان ضعيفة، وصورة خارجية للتقوى مع إنكار قوتها .. وها قد انتشرت في المسيحية خطية العبد الرديء الذي قال فِي قَلْبِهِ: «سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ» (لو12: 45). فذلك العبد لم يُنكر علنًا مجيء المسيح، ولم ينضم إلى الملحدين المستهزئين الذين يقولون: «أَيْنَ هُوَ مَوْعِدُ مَجِيئِهِ؟ لأَنَّهُ مِنْ حِينَ رَقَدَ الآبَاءُ كُلُّ شَيْءٍ بَاقٍ هَكَذَا مِنْ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ» (2بط3: 3, 4)، ولكنه بينما يعترف بمجيء الرب كعقيدة، فإنه يهمله كرجاء بأن ينغمس في الشهوات الجسدية والارتباطات العالمية، قائلاً فِي قَلْبِهِ: «سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ».
نعم، إن الظلمة القصوى تزحف علينا .. الليل يسوَّد ويشتد سواده .. والذين يقولون أن العالم يتحسن وسيعُم الرخاء والسلام عما قريب، ليس لهم بصيرة روحية، ولا هم مدركون لنبوات الكتاب المقدس، ولا لظروف العالم الحالية.
إن كل شيء مُظلم حتى فيما يختص بالمسيحية المعترفة اليوم .. إن ظلمة التعليم الشرير والارتداد والخراب الأدبي تزداد. والكتابات النبوية تُكلّمنا عن مشهد الظلمة والشرّ في الأيام الأخيرة للمسيحية (اقرأ 2تس2؛ 2تي3؛ 2بط2, 3؛ رسالة يهوذا)، وجميعها تصف أيام الظلمة هذه مع ازدياد الشر، وأحوال بلا أمل في إصلاح أو شفاء.
ففي رسالة تيموثاوس الثانية نجد الخراب يدب في المسيحية، وأما عودة الكنيسة إلى جمالها وإلى قوتها الأولى وترتيبها، فلا توجد إشارة إلى ذلك.
والرسول بطرس، في رسالته الثانية، يكتب عن نفس هذه الأيام، ويذكر فسادًا يستشري في العالم، وبدع هلاك وتجديفًا على الحق، وفجورًا عتيدًا أن يكون، وميلاً إلى النجاسة، ولكنه لا يُشير إلى قوة تعود للكنيسة كمجموع.
نعم – أيها الأحباء – إننا لا ننتظر تحسنًا في الظروف والأحوال. والأيام المقبلة لن تكون أفضل من الماضية. بل إن الكتاب يُخبرنا أن الشرّ سيزداد «إِلَى أَكْثَرِ فُجُورٍ» (2تي2: 16)، و«النَّاسَ الأَشْرَارَ الْمُزَوِّرِينَ سَيَتَقَدَّمُونَ إِلَى أَرْدَأَ، مُضِلِّينَ وَمُضَلِّينَ» (2تي3: 13)، والشرّ سيزداد، والإضطرابات ستتفاقم، فنحن في «الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ» و«الأزْمِنَةٌ الصَعْبَةٌ» التي تسبق مجيء المسيح الثاني (2تي3: 1)، وهي مقدمات للضيقة العظيمة. ويقينًا أننا الآن في آخر لحظات الليل، وبعد قليل سيبزغ «كَوْكَبُ الصُّبْحِ الْمُنِيرُ»؛ فشدة الظلام تُنبىء بقرب بزوغ الفجر.
ويهوذا أيضًا يكتب عن أيام الانحطاط والارتداد، وعن خراب المسيحية الاسمية، ولكنه لا يتكلم شيئًا عن استرداد القوة الروحية للكنيسة أو استرجاع جمال الترتيب الإلهي فيها بصفة عامة. ولكن بعد أن تحدَّث عن الارتداد المُريع والشر، فإن يهوذا يتحول إلى المؤمنين «الأَحِبَّاء»، ويُحرّضهم أن يفعلوا أربعة أمور؛ هذه هي الأربعة الأشياء الضرورية في يوم الشر (يه20, 21):
فأول كل شيء: «ابْنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى إِيمَانِكُمُ الأَقْدَسِ»، أي مبادئ الإيمان كما تسلمناها من كلمة الله مباشرة، بعيدًا عن أي إضافات بشرية، أو اجتهادات عقلية باطلة.
ثم يقول: «مُصَلِّينَ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ»؛ فيجب على كل مؤمن حقيقي أن يصرف وقتًا مُتكلمًا مع الله الذي تحدَّث إليه في الكلمة المكتوبة. والصلاة في الروح ليست هي صلاة الواجب، أو الصلاة الشكلية، أو مجرد تكرار كلمات، بل هي الصلاة المقودة بالروح القدس، والتي تتطلب سلوكًا في الروح، وتدريبًا في الحكم على الذات.
وثالثًا: «احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ فِي مَحَبَّةِ اللهِ». ليس المعنى هنا أننا يجب أن نحب الله، مع أن هذا ما يجب أن نفعله بالتأكيد، بل أننا نحفظ أنفسنا في التمتع بمحبته؛ أن يخصص كل منا محبة الله لنفسه، وأن نفسر كل أعماله معنا على أساس هذه المحبة الغير المحدودة. ويجب أن نظل واثقين أن محبته تعتني عناية دقيقة بكل منا في كل ظروف حياتنا؛ السار منها والمُحزن.
ورابعًا: فإننا نُحرَّض لكي نكون «مُنْتَظِرِينَ رَحْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ». إن رحمة ربنا يسوع المسيح تُشير هنا إلى عودته الوشيكة لأخذ شعبه إلى موطنهم السماوي. ففي أيام الظلمة والارتداد، علينا أن نُبقي على نور الرجاء المبارك مُشرقًا في قلوبنا. وهذا الرجاء سيعمل على تعزيتنا وتطهيرنا (1تس4: 18؛ 1يو3: 3). إن مجيء الرب إلينا سيُصبح رحمة عظيمة للقديسين – إنقاذًا وخلاصًا لخاصته من كل الشرور والضغوط، ومن كل أشكال خراب المسيحية الأسمية، وأيضًا من كل المصاعب المحيطة بنا.
ويرى البعض في تحريضات يهوذا الأربعة (يه20, 21)، تصويرًا بديعًا للمراسي الأربع التي نقرأ عنها في رحلة الرسول بولس إلى روما (أع27)، والتي تمثل لنا رحلة الكنيسة المعترفة، من بدايتها المجيدة إلى أيامها الأخيرة. فما قد ابتدأ في العصر الرسولي في حالة إشراق وضياء، سينتهي به الحال إلى الخراب.
فالسفينة في أعمال 27 تُمثل المسيحية كإناء للشهادة للحق. ويا للأسف، لقد جاء وقت فُرِّغت فيه السفينة من الشَّحْن (أع27: 10, 18)، ثم طُرحت الْحِنْطَة في البحر (ع38). وما الشَّحْن والحِنْطّة إلا إشارة إلى الحق الذي أؤتمنت الكنيسة عليه، لا لكي تُعلِّمه – لأنه ليس لها مطلقًا سلطة التعليم – وإنما وُضعت عليها مسؤولية الاحتفاظ به.
كما جاء الوقت الذي ما عادت إنذارات الرسول بولس أن تلقى آذانًا صاغية. فالحق الإلهي، الذي يُمثله الرسول بولس، لم يعد يُطاع في السفينة (ع11). وكلمة الله متى أُغفل أمرها فلا بد أن تسوء الأمور. ولقد أتى وقت كان فيه كل شيء مظلمًا وبلا أمل «وَإِذْ لَمْ تَكُنِ الشَّمْسُ وَلاَ النُّجُومُ تَظْهَرُ أَيَّامًا كَثِيرَةً، وَاشْتَدَّ عَلَيْنَا نَوْءٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ، انْتُزِعَ أَخِيرًا كُلُّ رَجَاءٍ فِي نَجَاتِنَا» (ع20).
واحتجاب السماء عن ركاب السفينة يُشير إلى أن الدعوة السماوية قد غابت عن الكنيسة، وفقدت المسيحية طابعها السماوي، فما عاد هناك رجاء للسفينة؛ إنه مقضي عليها بالدمار. إن السفينة ستنكسر – كما قال بولس – ولكن لن تكون هناك خسارة نَفْسٍ وَاحِدَةٍ (ع22). كذلك الكنيسة المُعترفة، كإناء للشهادة، ستنتهي بانكسارها، ولكن الرب سيأخذ لنفسه منها ، إلى المجد، كل مؤمن حقيقي.
نعم، ستتكسر السفينة، وستغوص كل القطع ولن تطفو ثانية، لكن كلمة الله تعلن أن كل مؤمن في المسيح يسوع له حياة أبدية، ولن يهلك إلى الأبد (يو10: 27, 28)؛ الجميع سينجو إلى الْبَرِّ الآمن (أع27: 44).
لاحظ أنه في أعمال27: 29 رموا أربع مراس «وَكَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَصِيرَ النَّهَارُ» (أع27: 29)، وبالنسبة لنا، فإن نهار مجيء الرب إلينا هو الرجاء والتوقع المشرق للكنيسة الحقيقية. وبينما كانت السفينة تضع المراسي كانت محفوظة، ولكن في اليوم التالي عندما نزعوا المراسي، تاركين إياها في البحر (ع44)، أنهم وقعوا في مكان ملتقى بحرين، وعندئذٍ تكسرت السفينة.
فعلينا – أيها الأحباء – أن لا نتخلى عن المراسي. إن دائرة الاعتراف المسيحي قد نزعت عنها هذه المراسي الواردة في يهوذا20, 21 ولم يعودوا يؤمنون بالكتاب المقدس أنه كلمة الله المعصومة والمُوحى بها. كما تحولوا عن الإيمان الأقدس، وتخلّوا عن الصلاة، ومحبة الله غير معروفة، ولم يعودوا يؤمنون أو يتطلعون إلى رجاء مجيء الرب، لذلك سرعان ما ستتكسر السفينة، والله سيرفضها نهائيًا.
ولكم نحتاج – أيها الأحباء – كمؤمنين وقعت قرعتنا في هذه الأيام الصعية أن ننتبه إلى مدلول تلك المراسي الأربع وأن نهتم بها. ومع أن كل شيء يبدو حولنا مظلمًا بلا أمل ، ومع أننا نُقرّ بعجزنا وضعفنا وفشلنا، لكننا ننتظر بزوغ فجر ذلك اليوم الذي تنتهي فيه كل مسبببات الحزن، وتستقيم كل الأمور. إن مجيء الرب وبزوغ كوكب الصبح المنير، هو شوق قلوبنا وتطلع أرواحنا، وهو الغرض الذي نطلبه ونبتغيه (قارن عب11: 14, 16).
أيها الأحباء ... ما أحرانا أن نرقب مجيئه عالمين أن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا. «قَدْ تَنَاهَى اللَّيْلُ وَتَقَارَبَ النَّهَارُ» (رو13: 11-14)، ونجاتنا تقترب جدًا. وفي انتظارنا لمجيئه القريب لنكون معه كل حين (1تس4: 17)، لترتفع قلوبنا وأنظارنا عن مشهد الخراب هذا، ولتتشدد سواعدنا لنكون أمناء حتى النهاية، إذ أن نهاية كل شيء قد اقتربت، وهوذا «يأتَى صَبَاحٌ» (إش21: 12).
«آمِينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ » (رؤ22: 20)


الثلاثاء، 4 أبريل 2017

رؤيا القدير

رؤيــا القدير
سفر العدد 24 : 4-6

"وَحْيُ الَّذِي يَسْمَعُ أَقْوَالَ اللهِ. الَّذِي يَرَى رُؤْيَا الْقَدِيرِ، مَطْرُوحًا وَهُوَ مَكْشُوفُ الْعَيْنَيْنِ: مَا أَحْسَنَ خِيَامَكَ يَا يَعْقُوبُ، مَسَاكِنَكَ يَا إِسْرَائِيلُ! كَأَوْدِيَةٍ مُمْتَدَّةٍ. كَجَنَّاتٍ عَلَى نَهْرٍ، كَشَجَرَاتِ عُودٍ غَرَسَهَا الرَّبُّ. كَأَرْزَاتٍ عَلَى مِيَاهٍ."
إذا أردنا أفكاراً مفرحة من جهة القديسين فيجب علينا ان نلاحظ الكنيسة كما هي بالحق في عيني الله , ضروري من الحصول علي "رؤيا القدير" أعني معرفة جمال الكنيسة في المسيح في كل كماله لكي تكون نفوسنا حليمة وقلوبنا رقيقة ومتواضعة من جهة ما يحدث حولنا , وإذا لم نتصف بذلك فلا نستطيع ان نثبت في محبة المسيح . ايضاً إذا لم نر الكنيسة إجمالاً والقديسين أفراداً كما هم في المسيح نكون معرضين لأن نسخط عليهم , وعوضاً عن أن نهتم بخدمتهم نقطع الرجاء من جهتهم وذلك لا يليق . نحن في خطر من وجهين , الوجه الأول – إذا اكتفينا بطريق التراخي ولم نهتم لمشاكلة القديسين للعالم , والوجه الثاني – إذا تذمرنا وسخطنا عليهم بروح ناموسية – بمرارة وتضجر . الإيمان يري القديسين أنهم مقبولون في المسيح ويمارس النصائح بالنعمة لكي يثبت القديسون ويزهرون في نعمة المسيح وتكون لهم رائحة زكية "كأودية ممتدة كجنات علي نهر كشجرات عود غرسها الرب , كأرزات علي مياه" .
ما أعظم هذه الصورة الجميلة المباركة ! هل نستطيع أن نفرح إذا رأينا القديسين عاجزين عن النمو ويهينون الرب ؟ لا . هذا لا يوافق مجد المسيح المطلوب منا . لم يقل بولس الرسول للقديسين في كورنثوس "يجب ان تكونوا" بل قال لهم "انكم رسالة المسيح ... مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحي" (2كو 3 : 3) لابد ان أحزن إذا وجدت في القديسين شيئاً مغايراً لجمالهم في المسيح لأنهم "كشجرات عود غرسها الرب كأرزات علي مياه" ليس فقط ان "الله لم يبصر اثماً في يعقوب ولا رأي تعباً في اسرائيل" (العدد 23 : 21) بل يري فيهم جمالاً .
آه يا احبائي نحتاج ان نري الكنيسة والقديسين أفراداً في "رؤيا القدير.... مكشوفي العينين" فبدون هذا لا ندخل في قوة فكر الله . اننا لا نحتاج الي "رؤيا القدير" لكي نفهم أن القديس إنما هو قديس ولا نحتاج الي أن نكون "مكشوفي العينين" لنكشف شيئاً غير موافق في سلوك اخوتنا . بل نحتاج الي ذلك لكي نري جمال مجد الكنيسة كما يراها الله . ولنتذكر ان حادثة موضوعنا كانت في حضور بالاق ملك موآب واعتقادنا بهذه الأمور يفرحنا حتي في وسط قوة الشيطان كما قال داود "ترتب قدامي مائدة تجاه مضايقي" (مز 53 : 5) فيري الأعداء كيف أنا مبارك , بينما أنا اعيد وأفرح بالاشياء التي أعدها لي الله "مسحت بالدهن رأسي , كأسي رياً" ليس فقط حصلت علي رحمة وسلام بل لي ملؤها أعني "كأسي رياً" فداود الذي اختبر أمانة الله له في الماضي يعتمد ويتكل عليه في المستقبل أيضاً كما قال "انما خير ورحمة يتبعانني كل أيام حياتي" ويختم قوله "واسكن في بيت الرب الي مدي الأيام".
"ما أحسن خيامك يا يعقوب . مساكنك يا اسرائيل" يجب أن نتشجع لأننا نعرف شدة محبة الله لأجل تعزيتنا في الوقت الحاضر . ومع أنه توجد رؤيا أو منظر حقيقي عن جمال الكنيسة في المسيح فلا نغض النظر عن قصوراتها هنا والنتيجة تكون تواضع الروح من نحو الرب وكثرة رقة القلب نحو بعضنا البعض . الرب ينعم علينا أن لا نجلس بقلب بارد مكسور ساكتين عن الشر فينا أو في إخوتنا لأن مياه الله قريبة من أصل الشجرة . ما أثمن ذلك الحق , ياليت كل المؤمنين يستيقظون ويدركون ويشعرون بجمالهم حسب فكر الله لكي يبتهجوا في ذاك الذي هو بهجتهم وجمالهم وهو سرور الله وفرحنا ومجدنا .



الأحد، 12 مارس 2017

الغفران من ثلاثة اوجه

الغفران من ثلاثة أوجه

- غفران أبدي
- غفران متجدد - عند رد النفس
- غفران سياسي أو تدبيري عندما يرفع الآب حكمه عن أولاده.

نعلم أنه كان للخطية ثلاث نتائج رهيبة:-
1- نتائجها الأبدية
2- نتائج تتعلق بتمتعنا العملي في شركتنا مع الله.
3- نتائج ترتبط بحكم الله وإجراء تأديباته علينا هنا في الأرض.
وبالارتباط بهذه النتائج الثلاث للخطية يرينا الكتاب المقدس ثلاثة أوجه للغفران.

الأول : غفران أبدي أو فدائي
الثاني : غفران متجدد
الثالث : غفران سياسي أو تدبيري

الأول : نحصل عليه في بداية الحياة مع المسيح.
الثاني : يحتاجه المؤمن بعد ذلك عندما يحزن الروح القدس, وذلك إذا سمح للشر أن يدخل حياته. إنه غفران يُعطى لابن يدرك علاقته مع الآب , ولكنه بسبب الخطية فقد تمتعه بالغفران إلى حين.
الثالث : يرتبط أساساً بطرق الله مع شعبه هنا على الأرض.


الغفران الأبدي أو الفدائي

هناك أربعة أسئلة هامة ترتبط بهذا الوجه من الغفران ونجد في كلمة الله إجابة واضحة عليها :
1- كيف دبره الله لنا؟
2- كيف نحصل عليه؟
3- كيف نتيقن منه؟
4- وما هي نتائجه التي نتمتع بها؟

- تجهيز الغفران :
1- كيف دبر الله لنا الغفران؟
وذلك بدم المسيح , وبدمه فقط ننال العفو , ولا يمكن أن يجهز الله غفراناً لخطايانا على أساس عادل بغير تتميم الكفارة لنا.
"الدم يُكفّر عن النفس" (لاويين17: 11 ,عبرانيين9: 22, متى26: 28, أفسس1: 7) فإذا كانت هناك طريقة أخرى لتدبير الغفران بخلاف ذلك, فما الذي دعا الله أن يبذل ابنه المبارك محتملاً العار والآلام, والمذلة ودينونة الصليب ؟ وإذا كان الغفران نحصل عليه بالصلوات والصراخ والدموع أفلم تكن صلوات المسيح كافية لذلك ؟. إذا كنت تقف في قفص الاتهام وقد صدر عليك حكم بالموت, فهل طلبك للعفو يجعلك تناله؟ وإذا كان مطلب العدالة في إجراء توقيع العقوبة أو تسديد الدين في المحاكم البشرية لا تصلح معه كلمات التوسل أو حسن النوايا أو الوعود الجميلة أو حتى الشعور بالأسف العميق, إذ لا تقدر هذه جميعها أن تبرئني أمام القانون البشري فكيف أتوقع أنني أنال العفو بهذه الطريقة أمام عرش الله ؟
لقد قرر الله بنفسه هذا الأمر, إذ أعلن أنه "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة" (عبرانيين9: 22). فحيث لا يسفك الدم فلا غفران. ولا شيء ينفع لتضمن غفران خطاياك سوى دم ذبيحة مقبولة.
إن الذي يطالب بالعدل هو بعينه الذي قد جهّز بالنعمة. ومعدات المذبح متساوية تماماً مع مطالب العرش. فالذي قال "الدم يكفر عن النفس" قال أيضاً "أنا أعطيكم إياه على المذبح" (لاويين17: 11). ولهذا أمكن للمؤمنين أن يقولوا "الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا حسب غنى نعمته" (أفسس1: 7).
إن نعمة الله هي المصدر, ودم المسيح هو وسيلة الغفران لنا. ونعمة الله أعدت الحمل وبدم الحمل تم تجهيز الغفران, وروح النعمة أعلنته باتساع وغنى للخطاة, وقلب الله كان يُسرّ أن يمنح الغفران للتائب والمنكسر القلب. إن الله يغفر كثيراً ويسامح بلا مقابل "وإذ لم يكن لهما ما يوفيان سامحهما جميعاً" (لوقا7: 42).
2- قبول الغفران :
إنه بالدم وحده أمكن لله أن يقدم لنا الغفران , وبالإيمان وحده يمكننا أن نقبله.
فالنعمة تمدنا به    -  والدم يقدمه لنا    -   والروح يعلنه لنا    -  والإيمان يخصصه لنا
"له يشهد جميع الأنبياء أن كل من يؤمن به ينال باسمه غفران الخطايا" (أعمال10: 43). "إنه بهذا (الإنسان) يُنادَى لكم بغفران الخطايا, وبهذا (الإنسان) يتبرر كل من يؤمن" (أعمال13: 38و 39). إنه ليس عن طريق أي استحقاق لنا في الماضي, ولا بأي وعد لنا في المستقبل يمكن أن نحصل على الغفران, ولكن ببساطة الإيمان بكفاية العمل والاستحقاق لهذا الشخص- الذي أقامه الله من الأموات, هذه القيامة التي برهنت على قبول الله لما فعله المسيح. "الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه, لإظهار برّه من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله. ليكون باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع" (رومية3: 25و 26).
وهذا معناه, أنه قبل موت المسيح, كان الله يتغاضى عن خطايا المؤمنين على أساس ما سيتم عمله, ومع هذا كان التغاضي بإمهال الله, وكان إمهاله عادلاً ومحقاً, على أساس التسديد الكامل الذي سيُقدم عنهم. أما منذ الصليب فالمؤمن ينال الغفران على أساس قيمة الدم الذي سُفك.
3- غفران مؤكد:
يمكننا أن نتحقق من أي شيء ونستريح بكل ثقة متى توفر الدليل الذي يركن إليه, ولذا لا بد أن تتوفر لنا البيانات التي نحتاج إليها, وعلينا أن نأخذها من مصدر موثوق فيه.
وعندما نأتي إلى شهادة الإنجيل, فلنضع في الاعتبار أن الله نفسه هو القائل بها "الله كلّم" (عبرانيين1: 1و2), "وأما كلمة الرب فتثبت إلى الأبد وهذه هي الكلمة التي بُشرتم بها" (1بط1: 25), إنه إنجيل الله, ولذلك كما قال الرسول للكورنثيين "لكن لأمين هو الله, إن كلامنا لكم لم يكن نعم ولا".
ومرة أخرى في (أعمال13: 38و39) "إنه بهذا (الإنسان) ينادى لكم بغفران الخطايا, وبه يتبرر كل من يؤمن, من كل ما لم تقدروا أن تتبروا منه"
إنه بالإيمان بالرب يسوع المسيح وبدمه الكريم, فإن الله يعلن أن الغفران معطى لك, وكما أن الله أمين كذلك فالغفران معطى لك.
لكن ربما تقول : أخشى أن يكون إيماني ضعيفاً جداً حتى أنال هذه البركة. ونحن نسألك هل هو كافي لكي يجعل المسح نفسه هو موضوع ثقتك؟ اهو موضوع إيمانك؟ وهل دمه الثمين هو حجتك الوحيدة؟ إذن سواء ظننت أنك بمقدورك أن تطالب أولاً, فإن كلمة الله تضمن لك هذه البركة. وبمقدورك الآن أن تقول آمين عندما تسمع "الذي يؤمن به ينال غفران الخطايا وبه يتبرر كل من يؤمن".
إننا لا نقدر أن نعتمد على مشاعر الفرد ولكن شهادة كلمة الله مؤكدة في هذا الأمر. فالواحد منا لا يمكنه أن يستند على مشاعره الداخلية للتأكد من الغفران. ولنأخذ مثالاً من التاريخ للتدليل على ذلك. فقد كان الدوق "سومرست" هو آخر الرجال الذين قطعت رؤوسهم على قمة برج هيل (وهي إحدى الأماكن الشهيرة), وكان هذا في فترة حكم الملك إدوارد السادس. وعندما اقتربت اللحظة المشئومة أتى رسول ممتطياً جواده من قبل الملك, وكان عضواً في المجلس وهو يتجه نحو المشنقة, وتبعه عدد من الضباط والجنود إلى ذلك المكان الكئيب عينه وهم يسرعون الخطى أما الجمهور المحتشد في الطريق فقد ظنوا خطأ أن هذا العضو قد أُرسل من الملك ليوقف تنفيذ حكم الإعدام. وابتدأوا يصيحون "العفو العفو". وارتفع الصياح حتى وصل إلى ساحة الإعدام , وسمعه الدوق المحكوم عليه وتورد خداه.
هل تتصور معي كيف كان شعوره عندما كانت تتردد تلك الصيحات على أذنيه في تلك اللحظة؟ وكيف كان صدره يجيش بالمشاعر لتلك الأخبار! وكيفما كانت مشاعره مرتفعة تسمو في أحلامها الوردية غير أنها لم تدم طويلاً, ومع أن الأخبار بدت جميلة لكنها بدون أساس. لقد كان الرأي العام مخطئاً. ومع أن آلاف الأصوات اشتركت في صيحة "العفو"! ومع أن مشاعر الدوق المحكوم عليه تجاوبت مع كلمات المديح التي قالها الجمهور عنه, غير أن الملك إدوارد لم يرسل رسالة العفو, وبدا أن كل هذا كان سخرية قاسية من صنع الخيال البشري. يا له من إعلان رائع وجميل, ولكنه كان يفتقر إلى شيء واحد.. وهو الشيطان الملكي.
فإذا كان يقيننا من الغفران راسخاً وصلباً فإننا نستخرجه حتماً من السلطة العليا- من كلمة الله, فإذا فعلنا ذلك فإننا نجد وراء هذا اليقين الراحة التي تتبعه ولكن أرجوك ألا تخلط بين اليقين وبين الراحة التي تصدر عنه. كذا لا تتخيل أن أي قدر من الشعور بالراحة يمكنها أن تعطيك اليقين الراسخ, وإن كان يجب بالضرورة أن ترافقه.
شيئين يجب أن تعرفهما :   لأن الله تكلم فإنني متيقن    ولأنني متيقن لذلك أشعر بالراحة
4- نتائج معرفة الغفران:
هناك على الأقل ثلاثة نتائج لمعرفة الغفران تتمتع بها النفس
أ‌- تجلب السعادة "طوبى (يا لغبطة) للذي غُفر إثمه وسُترت خطيته" وينتهي
هذا المزمور الذي يتحدث عن الإنسان الذي نال الغفران بالسعادة وبفرح الترنم (مز32: 1و11).
ب‌- تنشئ المحبة "الذي يُغفر له قليل يحب قليلاً".
أما المرأة التي كانت في المدينة فقد نالت غفراناً لـ "خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيراً" (لوقا7).
ج- تنشئ الخوف : إنه لا شيء يحرك النفس للاهتمام والغيرة المقدسة مثل محبة الله الغافرة في المسيح "إن كنت تراقب الآثام يا رب, يا سيد فمن يقف؟ لأن عندك المغفرة, لكي يُخاف منك" (مز130: 3و4).
وهذا ليس خوفاُ استبدادياً وليس خوفاً من فقدان محبته , بل من إحزانه. إنه ينبع أساساً من معرفة تلك المحبة التي ليس بمقدورها أن تتوقف أو تتغير . محبة بذلت نفسها لأجلي عندما كنت غارقاً وتائهاً وهالكاً. تلك المحبة التي شاركتني في كل شيء حتى أنني خلصت خلاصاً أبدياً.
فمن لا يخاف أن يحزن مثل تلك المحبة ؟ من لا يخافك يا رب ويمجد اسمك؟.




غفران متجدد- عند رد النفس
هناك فرق بين عدم المقدرة على البصر وبين فقدان البصر . فالشخص الذي تدخل جزئيات من التراب في عينيه ليس بمقدوره أن يتمتع بالنظر أكثر من الضرير. ومع هذا فلا يُفهم أنه قد فقد بصره فمتى أزيلت جزئيات التراب من العين تعود الرؤية بكل وضوح. وهكذا بنفس الطريقة فقد يكون المؤمن بسبب دخول الشر محاولاً بصورة عملية من التمتع بالعلاقة مع الآب وكأنه لم يكن متمتعاً بها من قبل. ومن المهم أن نرى تلك العلاقة باقية دون أن تتعكر. فالعلاقة لا تعتمد على تمتع الشخص بها , بل أن تمتعه بها يعتمد على سيره بما يتفق مع هذه العلاقة.
وعندما نتناول هذه النقطة في موضوعنا فهناك ما يقودنا إلى التواضع العميق ومع ذلك ففيه الكثير من الإنعاش لنفوسنا. فإننا إزاء فشلنا المخجل نشعر بالندم في ضوء محبة المسيح الغامرة وبدلاً من أن تتناقض محبته لنا إزاء فشلنا المتكرر, فإنها تفتح طريقاً جديداً لتُظهر نفسها. وهكذا نقرأ "إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار" (1يو2: 1). إنه لا يكتفي بأن يأخذ مكاننا في القضاء الإلهي بل إنه يتبنى مطالبنا في المجد. إنه لن يتخلى عن شعبه مطلقاً, يا لها من نعمة !.
إن عمل الصليب لن يتكرر أبداً, فهو كالمخلص الذي أخذ على عاتقه مسألة دينونة الخطية. إن هذه المسألة قد حُسمت إلى الأبد لدى المؤمن, عندما صرخ "قد أكمل" ومن الناحية الأخرى فإن عمله كالشفيع السماوي لم ينته بعد , ولن ينته حتى تعبر كل الكنيسة المفدية خارج مشهد الخطية إلى الأبد.
وتجب ملاحظة أن المسيح يمارس وظيفته كالشفيع البار عندما نخطئ, لا عندما نتأسف على الخطأ. وقد يبدو هذا الأمر صعب الفهم لدى النفوس, إن توبتنا ورد نفوسنا كمؤمنين هي من نتائج شفاعته, وليست سبباً لها.
هذا هو الجانب الذي يقوم به المسيح لرد نفوسنا. ولنأتِ الآن إلى دورنا نحن : "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم" (1 يوحنا 1: 9). هل هناك أكثر سهولة من هذه الكلمات إنها تعلمنا بكل وضوح أن أخطاءنا المُعترف بها هي مؤكدة للغفران.
وكم هي مؤكدة وراسخة هاتان الكلمتان: "أمين" و"عادل". إنها تذكرنا بذلك البار الذي استوفى كل مطاليب عدالة الله، وبذلك لن يتكرر الصليب مطلقاً. وما لم يكن المسيح قد حسم بعدل مسألة خطايانا على الصليب، فلا يكون بمقدوره أن يدافع بعدل عن قضيتنا أمام العرش. وكونه يطالب بالعفو عن المعاصي دون أن يكون قد اجتاز آلام الموت، معناه أنه يطالب الله أن يتجاوز عن خطايانا بدون دينونة لها – وهذا مستحيل مطلقاً ! ولكنه "تألم لأجل الخطايا، البار لأجل الأثمة ، لكي يحضرنا إلى الله". ولذلك فإن الله "أمين وعادل" لكي يغفر لنا خطايانا في اللحظة التي نعترف بها أمامه.
ويا للأسف فإننا نتباطأ في الوصول إلى رد النفس. فالخطأ غير المحكوم عليه والذي لا نعترف به ينشئ برودة كامنة في قلب من سقط. وبدلاً من الاعتراف الصريح والواضح يكون هناك سكوت مخادع مع أنه خلال كل هذا ربما يتعامل الله بوضوح معه ليأتي به إلى رد النفس الحقيقي. ويبدو أن هذه الحالة كانت مع داود أيضاً (انظر مزمور 32). تأمل قصته المؤسفة: "لما سَكَتُّ بليت عظامي مع زفيري اليوم كله. لأن يدك ثقلت عليَّ نهاراً وليلاً. تحولت رطوبتي إلى يبوسة القيظ". إنه شابه مريضاً محموماً متقلباً في فراشه ولكنه لا يجد راحته.
ألم يكن تعب داود وتعب الكثيرين من القديسين بسبب خطايا غير محكوم عليها، وغير معترف بها وهي في طي الكتمان؟ ولكن عندما ينفتح القلب والفم في النهاية كم يكون الغفران كاملاً. "قلت أعترف للرب بذنبي وأنت رفعت آثام خطيتي" (مزمور 32: 5).

الغفران السياسي (أو التدبيري)
ربما لا نجد موضوعاً مستبعداً من تفكير المؤمنين، بل غير مفهوم لديهم، مثل موضوع "طرق الله في الحكم على شعبه". بينما نراه مستقراً في صفحات الوحي المقدس وفي تاريخ شعب الله في كل العصور.
وما لم نستوعب فكر الله من جهة سياسته وحكمه فإننا لن نفهم معنى الغفران السياسي أو التدبيري. وأرى أنه من المهم أن نتناول النقطة الأولى قليلاً. فإننا نجد هذا المبدأ واضحاً في (غلاطية 6 : 7-9) "لاَ تَضِلُّوا! اَللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً فَلاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ".
وهناك نتائج مترتبة على سلوكيات معينة في هذا العالم, والله يسمح بذلك سواء كان لشعبه أم لأبناء الظلمة. فأياً من زرع فإنه سيحصد بالضرورة.
إنه مبدأ معروف جيداً في سجل طرق الله مع الإنسان ولكنه يختلف تماماً عن مبدأ النعمة. فقد نجد إنساناً في كمال التمتع بنعمة الله ومع ذلك نراه موضوعاً, في ذات الوقت, تحت معاملات الله وسياسته التأديبية. بل وأكثر من ذلك, فإن الله يتحكم في نتائج ما زرعه هذا الإنسان جسدياً, وتُمسِكُها في النهاية يد النعمة.
ولكي يعرف القارئ, مزيداً من الوضوح والفهم حول الاختلاف بين النعمة والحكم, فإننا نلفت انتباهه إلى هذه الحقيقة, فعندما تصبح المسألة متعلقة بالحكم فليس بالضرورة أن يتم التعامل مع الخطأ ولو تم الاعتراف به.
ولكن قد يقول واحد: (لقد أشرت من قبل أن مسألة الخطية قد حُسمت إلى الأبد). نعم فعندما كانت المسألة دينونة الله على الخطية باعتبارها ذنباً وهذا يتعلق بأمر خلاصنا, فهذه الخطية التي اُعترف بها قد تم التعامل معها على الصليب عندما قال يسوع "قد أَكمل", وذلك قبل أن تُرتكب. وثانياً من جهة التمتع بعلاقتنا مع الله فهذا تم لحظة مجيئنا بقلب منكسر معترفين بخطئنا بكل صدق وأمانة. أما من جهة ارتباط الخطية بسياسة الله التأديبية, ففي هذه النقطة لم تكن هناك ضرورة أن يتعامل الله معها.
ونحن نرى هذا المبدأ يسري في كل صفحات الكتاب, ومطبوعاً على التاريخ المقدس والتاريخ الدنيوي, وهو يتغلغل كل أحداث الأمم والشعوب, وظاهراً أيضاً في العائلات والأفراد. ليقل الملحدون ما شاءوا فإن تاريخهم لم يُستَثن من هذه القاعدة.
خذ مثلاً تاريخ اليهود منذ موت المسيح, فقد اختاروا لحظتها "لصاً" وفضلوه على المسيح. "ليس لنا ملك إلا قيصر", كانت هذه صرختهم,. "اصلبه" للمسيا الحقيقي, ومن ذلك التاريخ انظر كيف عاملهم قياصرة العالم؟
كذلك "أدونى بازق" الوثني, وهو أحد رؤساء كنعان فقد حاربته قوات مشتركة من يهوذا وشمعون وأخذوه أسيراً وقطعوا أباهم يديه ورجليه, وبدا هذا العمل أنه معاملة قاسية جداً ولكن كان حكم الله من وراء ذلك. فقد كان "أدونى بازق" يجني ثمرة ما قد زرعه, واعتراف شفتيه يشهد بذلك فقال "سبعون ملكاً مقطوعة أباهم أيديهم وأرجلهم كانوا يلتقطون تحت مائدتي, كما فعلت كذلك جازاني الله" (قضاة1: 6و7).
كانت أم يعقوب قد حَرَّضت ابنها أن يذبح جدياً, وبينما كان يطعم أبيه من اللحم, كان يخدعه بجلد الجدي, ولكن كانت تنتظره مَخَادِعهُ, أراد أن يهرب بسرعة بحجة البحث عن زوجة, بينما كان السبب الحقيقي هو احتداد عيسو وطلب الانتقام منه, لاحظ أولاً كيف حصدت الأم.. كانت خطتها أن يهرب لأيام قليلة عند أخيها لابان ولكن الغياب طال به إلى عشرين عاما ًوهكذا سجل التاريخ أنها لم تقع عيناها ثانية على يعقوب الذي كانت تحبه ! وعندما وصل إلى لابان فإنه دُعي على الفور لكي يحصد ما قد زرعه قبلاً. لقد خدعه لابان واعداً إياه بإعطائه راحيل, كان يعقوب قد استغل إكلال عيني إسحق ليخدعه, والآن يستغل لابان ظلام الليل ليخدع يعقوب.
ومع ذلك فإننا لا نحصد دائماً بسرعة كما حدث هكذا. وتمضي سنوات طويلة منذ أن ذبح يعقوب الجدي ليخدع أباه, ويأتي أولاده ليذبحوا جدياً ويرشوا دمه على قميص يوسف ويخدعوه به !.
ثم يأتي دور داود الذي يلطخ سمعته ويسيء إلى عرشه باثنين من أفظع الجرائم التي تجعله مذنباً في التاريخ (2صموئيل11: 12) فقد زنى مع زوجة واحد من أكثر رجاله أمانة وإخلاصاً, ثم لكي يغطي على جريمته خطط لاغتيال هذا الزوج.
ويمضي عام وداود غير مبال بما فعل, ولكن هل يبقى إله داود لا يبال؟ حاشا ! وانتظر ناثان الرجل الأمين على الملك المذنب. ويخبر داود بتلك القصة المؤثرة عن النعجة التي ذبحها الغني وهي ليست ملكاً له بل اغتصبها من الفقير الذي لم يملك غيرها, ويحتد غضب داود بشدة على الغني قائلاً "حي هو الرب إنه يُقتل الرجل الفاعل ذلك, ويرد النعجة أربعة أضعاف لأنه فعل هذا الأمر ولأنه لم يشفق"! إنه شيء مدهش أن نقسو على أخطاء الآخرين بينما نترفق ونتساهل بأخطائنا نحن وأخطاء ذوينا. ولكن إذا فكرنا قليلاً في حكم الله فإننا بالتأكيد سنكون أكثر رفقاً بعضنا ببعض. فمبدأ الحكم هو: "وبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم" (متى7: 2). "لان الحكم هو بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة" (يعقوب2: 13). ولقد أعلن داود القضاء. ووجد الله أنه لا بد من إجراء هذا القضاء.
فأولاً يموت ابن بثشبع, وهكذا تضيع أول نعجة! ويرى داود أن خطيته تتكرر في ولديه فيزني أمنون مع أخته ثم يقتله أبشالوم وهكذا تُفقد نعجة ثانية. وبعد ذلك يقتل أبشالوم بسهم يوآب, وهذه هي النعجة الثالثة التي تُفقد. ويبقى أيضاً أن يحصد داود حصاداً مزدوجاً. فقد كان أدونيا جميل الصورة جداً وشاباً متدفق الحيوية. ويبدو أن داود أهمل في تعليم وتربية أولاده, فنقرأ "ولم يُغضبه أبوه قط قائلاً لماذا فعلت هكذا؟". ونحن نتيقن أنه إذا كان رأس البيت قد فشل في إظهار سلطانه, فإن شخصاً آخر يمتلك الزمام في الحال. وهذه هي الحالة المحزنة التي أمامنا. فقد قال أدونيا (قبل أن يموت أباه): "أنا أملك" وماذا حدث بعد ذلك؟ جاء الأمر من سليمان (ابن بثشبع) وتسقط النعجة الرابعة بالسيف!.
يا لهول تلك الأحداث التي تركت تأثيرها العميق على قلب داود, فعاش ورأى ثلاثة من أولاده الأربعة يُقتلون بالسيف, وربما كان الجزء الأكثر مرارة لنتائج ما نزرعه بالجسد هو ما نحصده في وسط بيوتنا وعائلاتنا.
إن الحق المختص بمعاملات الله بالحكم تفوق طاقة احتمال أي واحد منا, ولكن صاحب الحكم من امتيازه لنا أنه في رحمته يكبح جماحنا, وتحت شروط خاصة يلطف من نتائج ما زرعناه بالجسد أو بكلمات أخرى يهبنا غفراناً سياسياً أو يرفع عنا تأديباته وأحكامه.
ولنأخذ مثالاً لهذا الغفران التدبيري أو السياسي, في حالة المريض الذي يصلي لأجله في (يعقوب5: 15), نلاحظ هنا أن غفران الخطايا واسترداد صحته يسيران معاً. إنه ليس غفراناً , بل كما رأينا "صلاة الإيمان" التي عند الآخرين والتي لا يمكنها أن تهب الغفران الفدائي, إنه بالحري الإيمان الفردي بدم يسوع الغالي. كما أننا لا نجد هنا غفران رد الشركة. بل تظهر الشركة القلبية بين المريض وشيوخ الكنيسة قبل حدوث الشفاء والغفران. وإذا رجعت إلى (مرقس11: 25) نقرأ هذا النص "ومتى وقفتم تصلون فاغفروا, إن كان لكم على أحد شيء, لكي يغفر لكم أيضاً أبوكم الذي في السموات زلاتكم". إنه لا يتكلم هنا عن خلاصنا في العالم الآتي, ولكن عن معاملات الله وأحكامه معنا, وما أبعد هذا تماماً عن "كل من يؤمن به ينال غفران الخطايا" وذلك عندما تصبح المسألة الغفران الأبدي "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا" وذلك في حالة رد النفس.
وبالارتباط بهذا. إذا عدنا إلى مثل المديونين الوارد في آخر متى18 نجد توضيح الرب لمبدأ الغفران التدبيري أو السياسي. فهناك الملك (أي رأس الحكومة) وكذلك عبيده أمامه يُحاسبون, فواحد مدين للملك بعشرة آلاف وزنة (وبلغة حسابات هذه الأيام أي 9 مليون دولار). وفي وقت المحاسبة لم يكن عنده ليسدد هذا المبلغ, فأمر سيده أن يباع هو وزوجته وأولاده وكل ما له ليوفي الدين (لاحظ هنا بالمناسبة كيف أن عائلة الرجل مرتبطة به بحسب طرق سياسة الله وحكمه), وخرّ العبد أمامه معترفاً بعدالة مطلب سيده, وخاضعاً لتلك المطالب, ومستعداً أن ينفذ ذلك متى كانت له القدرة أن يتمم. عندئذ يتحنن سيده ويترك له الدين. ولكن كان هناك عبد رفيق للعبد الأول مديناً بمائة دينار (وبلغة حساباتنا أي خمسة عشر دولار), إنه شيء تافه بالمقارنة مع ما كان مديناً لسيده, ويتخذ ذلك العبد نحو رفيقه ذات الموقف الذي اتخذه العبد الأول تجاه سيده, ولكن النتيجة اختلفت فالعبد الدائن طالب رفيقه بالدين, ولكنه لم يتعامل معه كما تعامل سيده معه من قبل, بل "أمسكه وأخذ بعنقه" وبعد ذلك "ألقاه في السجن". وعندما سمع الملك اغتاظ جداً ودعاه مذكراً إياه بالدين الهائل الذي كان عليه والغفران الكامل الذي أعطاه إياه, ولكنه طالما لم يسامح أخيه فإنه يسلمه إلى المعذبين حتى يوفي كل ما كان عليه.
ويكمل ربنا المبارك قائلاً: "فهكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته". أليس هناك خطر, لأننا تحت النعمة, ونعرف شيئاً من الغفران الأبدي بالدم, ولكن ننسى طرق الله بالحكم والتأديب, وهذا النوع بالذات من الغفران الذي يتحدث عنه الرب بكل صراحة هنا؟
ماذا إذن أيعلمنا الله بالتأديب ؟ وإذا كان تاريخنا الماضي يتحدث عن احتياجنا للرحمة وطول أناة الله لاحتمالنا ولا يحكم علينا, فيجب علينا لكي نقبل من يديه مثل هذا, أن نحرص جداً لنظهر هذه الصفة مع الآخرين. ويا للأسف فقد نكون قساة كأحجار الصوان وأحياناً نتصف بالحدة خاصة عندما نعتقد أننا في وضع عادل أن نفعل ذلك. وليس معنى هذا أننا يجب أن نتساهل مع الشر. فإذا أخطأ أخ إلينا فإن الله لا يستر على الخطأ أو يتغاضى عنه بأية طريقة. ولكن لنحذر من روح عدم التسامح. بل لنذهب إلى الأخ المخطئ ونجتهد أن نتكلم إلى ضميره, أو كما يُعبر الرب ببساطة "إن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه, إن تاب فاغفر له", متذكراً أنه "بالكيل الذي به تكيلون يكال لكم".
"من يسد أذنيه عن صراخ المسكين فهو أيضاً يصرخ ولا يستجاب" (أمثال21: 13). "مع الرحيم تكون رحيماً مع الرجل الكامل (أو المستقيم) تكون كاملاً مع الطاهر تكون طاهراً ومع الأعوج تكون ملتوياً" (2صموئيل22: 26و27).
صحيح إن هذه ليست إعلانات نعمة الله, ولكنها مبادئ حكمه, ولا يجب أن نتجاهلها. ومرة أخرى كم هو منعش ومشجع لنفوسنا أن نرى رحمة الله مع يعقوب. وهب أننا سألناه في أيامه الأولى, عندما كان كل من حوله, أي رغبتين تتوق إلى تحقيقهما؟ فربما قال أحب أن أرى كل أولادي مزدهرين وأنا أعتني بهم جيداً, ولكن "القميص الملون" الذي أراه على كتفي يوسف يظهر سعادتي به عندما أراه متعظماً فوق كل أخوته. ولكن كم يكون مدهشاً أن يقال ليعقوب: حسناً فإن الله عازم على أن يرسل عليك بأسوأ مما يمكن أن يحدث لك فهو يقاوم هاتين الرغبتين التين تتوق إلى تحقيقهما, وبهذه المقاومة فقط ستتحقق تلك الرغبة بطريقة لا تتوقعها. أهناك أسوأ من فقدان يوسف في الطريق الذي أرسله إياه؟ وتأتي بعد ذلك المجاعة التي تهدد البقية بهذه الكارثة. نعم فما لم يُفقد يوسف كيف أمكن له بعد ذلك أن يتبوأ أعظم مكان في مصر وبعدما تعظّم يوسف كيف أمكن ليعقوب أن يعرف ذلك بدون المجاعة وهذا يبدو لنا أن كل شيء أكثر عجباً. عندما نتذكر أن ذلك كان بالارتباط مع حصاده لما سبق أن زرعه بسنوات قبلاً. إنه كان قد خدع من جهة السر الحقيقي لغياب يوسف.






مقارنة بين أوجه الغفران الثلاثة
ومن المفيد, قبل أن نصل إلى ختام هذا الموضوع الهام, أن نعطي القارئ تلخيصاً موجزاً للأوجه الثلاثة للغفران. ونسرد هذه القصة التي تشرح لنا التباين بين هذه الأوجه الثلاثة. أب لعائلة كبيرة, وهو ناجح في تربية أولاده, وقد تعلّم أولاده أن تكون بينهم روابط أخوية معاً, وأن يطيعوا والديهم. فأظهر الآب لهم رغبته في أن يستمتعوا باللعب داخل حدود الحديقة الملاصقة للبيت. وألا يتعدوها خارجاً أملاً في طاعتهم.
وفي إحدى الأمسيات جاء أمين الشرطة إلى المنزل وطلب الآب, فأخبره أن ابنه "والتر" قد ألقى حجراً فكسر زجاج واجهة محل "السوبر ماركت" الذي أمام البيت. وبحثوا عن "والتر" لكنهم لم يجدوه في الحديقة مع الأولاد, فاضطرب الآب لهذا الموقف. وذهب مع أمين الشرطة إلى صاحب محل السوبر ماركت, ووجد فعلاً الواجهة الزجاجية قد تهشمت وبشهادة كثيرين قيل أن "والتر" هو الذي ألقى الحجر. وصمم صاحب المحل أن يدفع الأب قيمة التلفيات وإلا يتخذ الاجراءات القانونية لتقديم والتر للمحاكمة.
"وكم قيمة التلفيات؟ سأل الأب الرجل المتضرر, وحدد صاحب المحل القيمة, وسدد الأب كل القيمة في الحال. واستلم إيصالاً بالتسديد وعاد إلى بيته.
والآن هل يستطيع أحد أن يستدعي الولد إلى المحاكمة بسبب خطئه؟ طبعاً لا أحد. فقد تسدد المبلغ كله, وانتهى الأمر مع من أضير, هكذا الأمر مع من آمن بالرب يسوع المسيح.
فالخاطئ خائف ومرتعد
والله لا يستطيع أن ينسى
فذاك الذي سدد الكل محى الدين من ذاكرته.
فلا شيء آخر استطاع أن يحررنا
أو يجعل نفوسنا قريرة
إنما عملك لأجلنا يا ربنا يسوع
الذي ضمن لنا إطلاقاً كاملاً.
وإذا عدنا إلى القصة ثانية, فإن الآب وابنه المخطئ لم يلتقيا, مع أن العلاقة قائمة بينهما. لكن الموقف متوتر والشركة منقطعة بينهما. وعند وصول الآب إلى بيته, بدأ يتولى هذه المهمة المؤلمة لكي يدعو ابنه المحبوب كثيراً ليحاسبه. إنه يتعامل معه كآب ولا بد له أن يواجه مثل هذه الإرادة العاصية. ثم يخبره أنه لن يخرج مرة أخرى مع أخوته في المساء ما لم يسمح له أبوه بذلك وأمره أن يصعد إلى غرفة نومه.
وجاء أخوه يتوسل إلى أبيه لكي يسمح لوالتر أن يأتي ويراه. وقبل أبوه طلبه, وروى والتر المسكين وهو يتنهد ويبكي قصته المؤسفة.
"ولكن أكثر من هذا, يا أبي, فقد عصيتك كثيراً. هل تسامحني؟ "هكذا قال الولد المضطرب. لقد وجد الأب أن ابنه يدين نفسه معترفاً بكل عصيانه. فقدم له النصيحة بكل عطف, مؤكداً له, قبل ذهابه إلى حجرة نومه غفران قلبه الكامل. وهنا تُسترد الشركة بينهما, ويتضح هنا معنى استرداد الغفران عند المؤمن.
وفي الأمسية التالية, وبعد العشاء استعد بقية الأولاد للخروج إلى الحديقة للعب والجري كالمعتاد, وعندما سأل والتر أباه إن كان له أن يخرج معهم.
- "لا يا بني"
- "ولكن يا أبي أنا أظن أنك سامحتني!"
- "ألم تُسامَح فعلاً؟ هل جاء صاحب السوبر ماركت أو أمين الشرطة
ليطالبك اليوم بشيء؟"
- "لا يا أبي"
- "لماذا؟"
"لأنك سددت عني كل الدين الذي جلبته على نفسي عندما رميت الحجر على واجهة المحل"
- إنك قد سومحت في هذا الأمر. ثم ألم أقبلّك كالمعتاد في هذا الصباح؟ وألم
تتخذ مكانك كالمعتاد على المائدة؟ كذلك ألم تأخذ نصيبك من الطعام والاهتمام كأغلى الأولاد عندي؟"
- "نعم يا أبي"
- هل عاملتك ببرودة وأظهرت لك أي صورة مختلفة من التعامل معك, أو هل حتى أسمعتك في الليلة الماضية ذكر تلك الحادثة؟
"لا". ويكمل الأب: "علاقتنا الشخصية استردت الليلة الماضية, لكنني لا أقدر, من جهة حكمي في البيت, أن أتناول ما حدث بخفة, وهذا ليس لأجلك فقط, ولكن لأجل إخوتك وأخواتك. لهذا السبب لا تقدر أن تخرج في المساء حتى أفكر جيداً في الأمر"
وبدأ الولد المسكين يغتاظ ويبوز, ولكن الأب كان يصر ويؤكد بكل لطف أنه لن يخرج خارج المنزل بعد العشاء.
ولكن بعد ذلك انشغل والتر ببعض الواجبات المنزلية , وكان خاضعاً لحكم أبيه في البيت, وليلة بعد الأخرى بدأ يذاكر دروسه جيداً, وكان التقرير الأسبوعي لأستاذه في المدرسة أنه حصل على الدرجات النهائية في مواده الدراسية في فصله.
وفي الليلة التالية , قال الأب , "والآن تستطيع يا ابني أن تخرج مع أخوتك لتجري في المساء". إنه لم يُرَ فقط أنه كان خاضعاً لأوامر أبيه وسلطانه. ولكنه أظهر تفوقاً في أعماله بصورة إيجابية ولهذا فإنه أُعطي غفراناً سياسياً أو تدبيرياً.
هكذا الأمر معنا. فإنه لا يكفينا أن تُسترد شركتنا مع الأب وابنه بالروح. بل يجب أن نخضع ليد الله في الحكم. فقد دعينا لنُخضع أنفسنا تحت يد الله القوية لكي يرفعنا في حينه. ولنسلك أيام غربتنا هنا بكل خوف, فإننا ندعو "الآب الذي يحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحد" (1بطرس1: 17). إنه ليس خوف العبيد, بل كما ترينا الرسالة عينها أن نُلقي كل همنا عليه. لأنه هو "يعتني" بنا (1بطرس5: 7).
إنه يريدنا أن نكون غيورين في سلوكنا, وألا نسقط في خداع أنفسنا, من الخطأ ثم الاعتراف به متصورين أن الأمر ينتهي عند هذا الحد. "لأن إلهنا نار آكلة" (عبرانيين12: 29). فلا شيء بخلاف شفاعة المسيح التي تؤكد لنا رد شركتنا. ولكن نتحقق من أن الله لن يسمح لنا بأن نتلاعب مع الخطية ونفلت من العقاب. إنه بكل تأكيد , لا ينفعنا أن نتمرد على حكمه فهي يده القوية. ليتنا لا ننسى أن هنا محبة قوية وجبارة خلف يده التي تحكم كل لحظة. وهل فكرة يد الله التي تحكم تخفى قلب الله بالنعمة من نحونا ؟ ومن ناحية أخرى ليتنا لا نسمح بأن تكون معرفتنا بنعمته التي نعترف بها ترتبط بانحلال سلوكنا ورخاوتها وعيشتنا العالمية. أو نخدع أنفسنا بفكرة أن سلوكنا هذا يتغاضى الله عنه عندما نوجد في الأقداس. إننا لن نحصد دائماً بالرحمة. وفي السر فإن مرارة النفس التي تحصد غالباً ما زرعناه- وبلا شك كلما تعمقت فينا الاختبارات الداخلية كلما كانت الضربة أخف- ولكن بحسب الحكم يجب أن يترك الكل معه "الذي يحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحد" (1بطرس1: 17).
ليت الرب يهب غنى بركته لكل من القارئ والكاتب لهذه الصفحات. ويعمق في نفوسنا الشعور بقداسته ومحبته, حتى نسلك بأكثر سهولة أمامه لنقترب بالأكثر منه ولنعمل بقلب كامل نحوه حتى نصل إلى الغرض الذي نسعى إليه.

جورج كتنج