الأحد، 6 أبريل 2014

الراحة الحقيقية

الراحة الحقيقية
 "ثم تحولنا وارتحلنا إلى البرية على طريق بحر سوف كما كلمنا الرب ودُرنا بجبل سعير أياماً كثيرة" (تث 2 : 1)
وما أجمل لفظ «نا» هنا، فموسى يشرك نفسه مع الجماعة، وهو مع يشوع وكالب الثلاثة قد رجعوا إلى البرية مع الجماعة كلها غير المؤمنة، وهذا في نظر الإنسان الطبيعي ربما يعتبر قساوة، ولكنه في الواقع كان خيراً وبركة، ولا يوجد أحسن من الخضوع لإرادة الله ذلك الخضوع المقترن ببركة الرب دائماً أبداً.  وإن كنا في أوقات كثيرة لا نستطيع أن نرى الأسباب أو نعرف مجريات الأمور التي تستلزم الخضوع الكامل لإرادة الرب.  ومع أن موسى ويشوع وكالب كانوا على تمام الاستعداد للذهاب لأرض الموعد، ومع ذلك لم تَبدُ من عبيد الرب الثلاثة الكرام كلمة تذمر أو أنين بسبب عودتهم إلى البرية ليتغربوا فيها مدة مديدة، وقد انصاعوا لأمر الرب وحسناً فعلوا، لأن يهوه العظيم قد تنازل وتحوّل مع شعبه وارتحل إلى البرية.  وكيف كان يخطر ببالهم أن يشكوا أو يتذمروا وقد رأوا عربة إله إسرائيل متجهة نحو البرية، ولابد وأن تكون نعمة الله وصبره، ورحمة الله وطول أناته قد علمتهم أن يقبلوا بفكر مستريح العودة إلى البرية والتغرُّب فيها وأن ينتظروا الوقت الذي عيّنه الرب لدخول أرض الموعد.  ولا يوجد أعظم من الخضوع دائماً والتواضع تحت يد الله القوية.  ومن المؤكد أن هذا التدريب النفيس يؤدي بنا إلى محصول وفير وخير جزيل.  وسر الراحة الحقيقية هو في حمل نير المسيح، وقد أكد لنا السيد ذلك بقوله «تعالوا إليَّ يا جميع المُتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم.  احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم.  لأن نيري هيّن وحملي خفيف».
وما هو هذا النير؟ الخضوع الكامل والمُطلق لإرادة الآب.  وهذا ما نراه مجسماً ولدرجة الكمال في شخص ربنا ومخلصنا يسوع المسيح المعبود المبارك، وقد قال مرة بفمه الكريم «نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرة أمامك».  فأهم شيء عند الرب يسوع مسرة الآب، وكل شيء عنده يُقاس بمقياس هذه المسرة.  وعلى أثر أن رُفضت شهادته وظهر كأن جميع مجهوداته ذهبت عبثاً وقواه صُرفت على غير طائل.  على أثر ذلك كله استطاع أن يقول «أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض» فكل ما يُسرّ قلب الآب، يفرح قلبه هو أيضاً، وما من فكر أو رغبة عنده إلا وهى متفقة تمام الاتفاق مع إرادة الله.
ولذلك تمتع كإنسان بالراحة الكاملة دائماً، وقد استراح في المشورات والمقاصد الإلهية، ولم يضطرب مجرى سلامه من الأول للآخر.
هذا هو نير المسيح الذي يدعونا من فرط نعمته غير المحدودة لأن نحمله لكي نجد نحن أيضاً راحة لنفوسنا، ولنلاحظ بنوع خاص ونجتهد في فهم الكلمات الآتية: «فتجدوا راحة» ولا يجوز لنا أن نخلط بين الراحة التي يعطيها والراحة التي نجدها، فالنفس المُتعبة والمثقلة بالأحمال، بمجرد أن تأتي إلى الرب يسوع بالإيمان الصريح الصادق البسيط، يعطيها راحة وطيدة - الراحة الناشئة عن اليقين التام بالعمل الكامل الذي بمقتضاه قد أُبطلت الخطية إلى الأبد ونالت تلك النفس براً كاملاً.  فالمسيح مات لأجل خطايانا، وقام لأجل تبريرنا وبذلك حُلّت كل المشكلات بطريقة إلهية أبدية، وتمجد الله وأُسكت الشيطان، وهدأ الضمير واستراح تماماً.
هذه هي الراحة التي يعطيها الرب يسوع لنا بمجرد أن نأتي إليه.  ولكن من الجهة الأخرى علينا أن نجتاز الحياة اليومية بكل مناظرها وظروفها، ولابد وأن نُصادف أثناء اجتيازنا تجارب وضيقات وتدريبات وصدمات ومعاكسات وخيبة آمال متنوعة، وهذه كلها لا تستطيع أن تؤثر قط على الراحة التي يعطيها الرب يسوع، ولكنها ربما تؤثر كثيراً على الراحة التي نجدها.
هذه الأشياء كلها لا تُتعب الضمير ولكنها ربما تُتعب القلب كثيراً وتجعله في حالة القلق والفزع والاضطراب، وعلى سبيل التمثيل نقول: إنني دُعيت لأن أعظ في جلاسجو، فلبيت الدعوة وأُعلن عن ذلك، ولكن بالأسف أتى الوقت المعيّن فإذا بي طريح الفراش في لندن.  مثل هذا الظرف لا يؤثر على ضميري ولا يتعبه، ولكن يصح أن يُتعب قلبي ويجعلني غير مستريح، وكأني في حالة الحمى والهذيان، أقول: حقاً إنه لأمر مُتعب جداً مؤدِ إلى الخيبة والفشل.  ماذا أعمل بإزاء هذا الظرف المعاكس غير المنتظر؟
وكيف يليق بنا أن نقابل مثل هذه الحالة؟ وما هى الطريقة والواسطة التي تهدئ القلب المضطرب وتلّطف من حدة الذهن المتقد؟ ما هى حاجتي وأي شيء أريد؟ أحتاج في مثل هذه الحالة إلى الراحة ولكن أين أجدها؟ أجدها إذا طأطأت رأسي وحملت نير المسيح الثمين على كتفي؛ ذلك النير الذي حمله السيد في أيام جسده - نير الخضوع الكامل لإرادة الله.  أحتاج لأن أكون في حالة أستطيع أن أقول فيها من أعماق قلبي وبدون قيد ولا شرط «لتكن مشيئتك يارب» أحتاج إلى شعور حي عميق بمبلغ محبة الله الكاملة من نحوي، وحكمته غير المحدودة في كل معاملاته معي حتى أرضى بما يرضيه في كل شيء، ولا أرغب عنه بديلاً، بمعنى أنه لو كان في مقدوري أن أغير مركزي وظروفي لما أقدمت على تحريك أصبعي نحو ذلك، لأنني متيقن أنه خير لي أن أكون طريح الفراش في لندن عن أن أقف واعظاً في جلاسجو مادامت هذه هى إرادة الرب.
هذا هو سر راحة القلب الثمينة العميقة بالمقابلة مع اضطراب القلب وارتباكه، وهذا السر عبارة عن إمكانية تقديم الشكر القلبي لله في كل شيء مهما كان يخالف إرادتنا الذاتية أو يتعارض مع مشروعاتنا الخاصة، وهذا كله يستلزم التسليم القلبي الصادق بالحق القائل «كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله، الذين هم مدعوون حسب قصده».  ويستلزم أيضاً الشعور الأكيد والتحقق العملي من أن ما يعينه لنا الله لابد وأن يكون أحسن شيء لنا.  وبالاختصار نجد راحة القلب في الاستناد على محبة الله وحكمته وقدرته وأمانته، تلك المحبة التي جعلته يتولى أمرنا ويعتني بنا ويرتب لنا كل شيء ويدبر ما نحن في حاجة إليه في الوقت الحاضر وفي الأبدية أيضاً، ونحن نعلم أن المحبة تبذل أقصى ما في وسعها دائماً لأجل مَنْ تحب، أو على هذا القياس نجد إلهنا قد عمل لأجلنا أعظم ما يمكن عمله، فكيف لا تكتفي قلوبنا بما عمله إلهنا لأجلنا ولازال يعتني بنا عناية لا حد لها تتناسب مع محبته التي لا حد لها.
ولكي يستطيع القلب أن يكتفي ويقنع بإرادة الله، يجب أن يعرف الله أولاً ويختبر صلاحه.  في جنة عدن بعد أن أغوت الحية حواء أصبحت غير قانعة بإرادة الله، فقد اشتهت حواء شيئاً منعه عنها الله، وهذا الشيء تعهد الشيطان بأن يقدمه لها، وقد ظنت حواء أن الشيطان في استطاعته أن يراعي صالحها أكثر من الله، واعتقدت أن ظروفها تتحسن لو نزعت نفسها من بين يدي الله وسلَّمت زمامها ليدي الشيطان.  ولهذا يستحيل على القلب غير المتجدد بأي حال أن يستريح في إرادة الله، وكلما فحصنا القلب البشري ووصلنا إلى أعماقه وأجرينا تحليلاً دقيقاً أميناً لكل مراميه وأغراضه، كلما تحققنا أن القلب غير المتجدد تتنافى أفكاره مع إرادة الله.  ولا يوجد فكر واحد من الأفكار التي تخرج من القلب تتفق مع إرادة الله الصالحة، وحتى أولاد الله المسيحيون بالحق إن لم تَمُت إرادتهم الذاتية بنعمة الله ويحسبوا أنفسهم أمواتاً ويسلكوا بالروح، فغير مستطاع لديهم أن يُسّروا بإرادة الله ويشكروا في كل شيء.  ومن أصدق الدلائل على الولادة الجديدة أن يقول الإنسان من أعماق قلبه بدون قيد ولا شرط وفي كل الظروف التي يسمح الرب أن يُجيزه فيها «لتكن إرادتك» «نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرة أمامك».  وبكل تأكيد لا يستطيع الشيطان أن يؤثر على مثل ذلك القلب الخاضع لإرادة الله.  ومن المهم جداً أن يصل المؤمن إلى حالة روحية فيها يقول للشيطان وللعالم، لا بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحق، وينادي ليس فقط بشفتيه بل بحياته وقلبه: إني راض كل الرضا ومُسلِّم كل التسليم لإرادة الله.
هذا هو طريق الراحة، فيا ليتنا نسير فيه عملياً، بل هذا هو البلسان السماوي لكل انزعاج واضطراب في الحياة، والدواء الشافي لروح التذمر والأنين وعدم الرضى بما قسم لنا، الأمر المُشاهد كثيراً لسوء الحظ في الوقت الحاضر.  وفي الرضى والتسليم لإرادة الله الضمان الكافي لإيقاف تيار حب الشهرة والطموح للرفعة والجاه، ذلك التيار المنافي لفكر المسيح وروحه والمتفق مع أميال ورغائب أهل هذا الدهر.
يا ليت أيها القارئ العزيز تكون لنا الغيرة المقدسة التي تدفعنا لأن ندرب أنفسنا حتى يكون لنا الروح الوديع الهادئ الكثير الثمن في نظر الله، الروح الذي يخضع لإرادة الله الصالحة في كل شيء ويبرر معاملات الله مهما كانت ويحامي عنها مهما كلفه ذلك، وعندئذ يفيض سلامنا كنهر جار ويتمجد اسم ربنا يسوع المسيح في حياتنا وسلوكنا وخصالنا.
وقبل أن ننتقل من هذه النقطة المهمة وهذا الموضوع العملي، يحسن بنا أن نُبدي الملاحظة الآتية وهى: أن هناك حالات ثلاث للنفس بخصوص معاملات الله وهى الخضوع والرضى والابتهاج.  فالنفس تخضع لإرادة الله عندما تنكسر إرادتها الذاتية، والنفس ترضى وتقبل هذه الإرادة الصالحة عندما يستنير الذهن من جهة القصد الإلهي، وتبتهج النفس بإرادة الله عندما تنشغل أميالها وتنحصر أشواقها في الله ذاته.  لهذا نقرأ في الأصحاح العاشر من إنجيل لوقا ما يأتي حرفياً: «وفي تلك الساعة تهلل يسوع بالروح وقال أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال، نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرة أمامك».  فهذا الشخص المبارك وجد سروره الكامل في إتمام إرادة الله من كل وجه، فكان طعامه وشرابه أن يصنع مشيئة الله مهما كلفه ذلك.  وسواء في الخدمة أو الآلام، في الحياة أو الموت كان غرضه الوحيد صُنع مشيئة الله، وقد استطاع أن يقول بحق «لأني في كل حين أفعل ما يرضيه».  لاسمه الأسنى كل سُبح وسجود إلى أبد الآبدين.

ماكنتوش