الثلاثاء، 17 أبريل 2018

أنت وأهل بيتك - ماكنتوش


أنت وأهل بيتك
أو المسيحي في بيته
"وَقَالَ الرَّبُّ لِنُوحٍ: «ادْخُلْ أَنْتَ وَجَمِيعُ بَيْتِكَ إِلَى الْفُلْكِ"

ملحوظة : سبق أن نوه المرحوم طيب الذكر الاخ المحبوب ناشد أفندي ساويرس في صحيفة ۱۳۰ من مجلة "صدى النعمة والحق" ، لسنتها الثالثة عن نبذة جميلة عنوانها : أنت وأهل بيتك "تالیف المرحوم تشارلس ماكنتوش" ، وأشار مؤلف كتاب "المسيحي وأهل بيته"، على كل المسيحيين لاسيما أرباب العائلات أن يطالعوا تلك النبذة لما فيها من التعاليم الثمينة والنصائح اللازمة جدأ ، ويجب على كل واحد أن يقرأها بنفسه ، وكان يتمنى المرحوم ناشد افندي ساويرس أن يعربها لأهميتها وينشرها تباعا في المجلة ولكن رأی الرب أنه قد أكمل السعي فضمه من وجه الشر وترك أمر التعريب علی من يشعرون بمسؤولية خدمة الرب في هذا المضمار، وحتی لا يحرم القراء الأعزاء من الثمار النفيسة الموجودة في كل صفحة من صفحات هذه النبذة بادرنا بتعريبها بنعمة الله .

يوجد بيتان يشغلان مكانة هامة في صحائف الوحي - بيت الله أولاَ وبيت خادمه ثانيا . فالله يهتم إهتماما كبيرا ببيته وله ذلك الإهتمام لانه خاصته فحقه وكرامته وصفاته ومجده كلها تتمثل في صفات بيته ، ومن هذا نفهم تمام الفهم رغبة الله أن تظهر صورته ظهوراً جلياً في كل شئ خاص بذاته ، وإن كان لله بيت فمن المحقق أنه ينبغي أن يكون بيتاً طاهراً ، بيتاً مقدسا ، بيتاً روحياً ، بيتاً راقياً ، بيتا نقياً سماوياً ، فعلى هذه الأوصاف يجب أن يكون بيت الله ليس من الوجهة السطحية النظرية بل من الوجهة العملية المحسوسة ، فمقام بيت الله غير المنظور مؤسس على ما أوصله الله إليه من المركز العالي ، ولكن حالته العملية قائمة على سلوك الأفراد المكون منهم هذا البيت على الأرض .
على أننا نرى عقولا كثيرة مهيأة لقبول كل المبادئ المتعلقة ببيت الله مقتنعين بصدقها وأهميتها، إلا أننا نرى بالمقارنة مع أولئك نفراً قليلا يعبرون اهتماما بنفس الدرجة للمبادئ المتعلقة ببيت خادمه ، ولو سألنا أحدهم عن أي بيت يلی بیت الله في الأهمية فمما لاشك فيه يجيبنا قائلا "بيت خادم الله" .
وبما أنه لايوجد شئ يؤثر على الضمير أكثر من الرجوع إلى سلطان كلمة الله المقدسة فاقتبس منها شذرات قليلة ترينا بغاية الوضوح والجلاء ماهية أفكار الله بخصوص بیت إنسان له علاقة وارتباط بشخصه المبارك ، فعندما وصل شر العالم قبل الطوفان إلى درجة لا تطاق - إلى درجة فيه نهاية كل بشر قد أتت أمام الله الذي كان على وشك أن يغمر ذلك المشهد الردئ بتيار دينونته العادلة . في تلك الفرصة عينها وقعت هذه الكلمات الحلوة على سمع نوح " وَقَالَ الرَّبُّ لِنُوحٍ: «ادْخُلْ أَنْتَ وَجَمِيعُ بَيْتِكَ إِلَى الْفُلْكِ، لأَنِّي إِيَّاكَ رَأَيْتُ بَارًّا لَدَيَّ فِي هذَا الْجِيلِ."  (تك7 : 1 ) وإن قيل أن نوح كان رمزا للمسيح بمعنى أنه كان كالرئيس البار لأسرة مفدية مخلّصة بسبب إتحادها معه فكل ذلك مسلم به كل التسليم، إلا أن أوصاف نوح الرمزية لا تتداخل بأي حال من الأحوال مع المبدأ الذي أريد استنتاجه من هذا الفصل وأمثاله . فهذا مبدأ أريد ذكره هنا بغاية الإيضاح، وهو أن بيت كل خادم من خدام الله بسبب إرتباطه بالرب أصبح في مركز ممتاز من جهة وفي مركز مسؤولية من جهة أخرى[1]
وقبل أن ننتهي من هذه النبذة سنكون قد تحققنا ببركة الرب ونعمته ما ينطوي تحت هذا المبدأ من نتائج عملية هامة ولكن مع ذلك ينبغي أولا أن نؤيد صدق هذا المبدأ بكلمة الله، فلو تركنا أنفسنا إلى القياس والاستنتاج لكان من السهل علينا أن نبرهن صحة هذه المسألة لأنه لا يمكن لأي إنسان عالم تمام العلم بصفات الله ومعاملاته أن يخطر بباله أن الله الذي إهتم وأعار التفاتاً عظيما إلى بيته ينظر إلى بيت خادمه نظرة عدم الاكتراث وعدم المبالاة، إن هذا لمن المستحيل لأن صفات الله يجب أن تتمثل في هذا البيت وان يعمل دائما على صورته ومثاله، ونحن لسنا بمتروکین للقياس والاستنتاج في هذه المسألة الخطيرة، والفصل الذي إقتبسناه هو أول حلقة من حلقات براهين الإثبات الجلية فقد وردت فيه هذه الكلمات "أنت وأهل بيتك"، وهي كلمات في غاية الأهمية مرتبطة معا ارتباطًا لا إنفصال له، فالله مثلا لم يدبر لشخص نوح خلاصأ قاصراً عليه وحده وغير شامل لعائلة نوح وأهل بيته، فهو لم يفكر أصلا في شي كهذا إذ نفس الفلك الذي انفتح أمام نوح انفتح على مصراعيه أمام أهل بيته أيضا . لماذا كل هذا الأنهم كان لهم إيمان ؟ الجواب لا، ولكن لأنه كان له إيمان وهم كانوا مرتبطين به فأعطاه الله قائمة بيضاء لنفسه ولعائلته وصار له الحق في أن يملأها بتدوين أسمائهم معه، وإني أكرر القول أن هذا الأمر في النهاية لا يتعارض مع مركز نوح الرمزی، فلو نظرنا لنوح کرمز ففي نفس الوقت ينبغي أن ننظر إليه كشخصية مستقلة، وبأي حال من الأحوال لا يمكننا أن نفصل رجلا عن أهل بيته فبيت الله يؤتي به للبركة والمسؤولية لارتباطه بشخص الله .
وبيت خادم الله يؤتي به لمركز البركة والمسئولية أيضا لارتباطه بشخص الخادم وهذا هو فحوى مسألتنا ومغزى القضية التي نحن بصددها .
وأما الفقرة الثانية التي أريد الإشارة إليها مقتبسة من سيرة إبراهيم، "فَقَالَ الرَّبُّ: «هَلْ أُخْفِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ مَا أَنَا فَاعِلُهُ، وَإِبْرَاهِيمُ يَكُونُ أُمَّةً كَبِيرَةً وَقَوِيَّةً، وَيَتَبَارَكُ بِهِ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ؟ لأَنِّي عَرَفْتُهُ لِكَيْ يُوصِيَ بَنِيهِ وَبَيْتَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ يَحْفَظُوا طَرِيقَ الرَّبِّ، لِيَعْمَلُوا بِرًّا وَعَدْلاً، لِكَيْ يَأْتِيَ الرَّبُّ لإِبْرَاهِيمَ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ»" (تك ۱۸ : ۱۷ - ۱۹) فالأمر هنا ليس أمر خلاص ولكنه أمر شركة واتحاد مع أفكار ومقاصد الله ، وليلاحظ كل والد مسيحي وليتأمل في هذه الحقيقة بكل رصانه ووقار، أن الله عندما أراد أن يبحث عن إنسان يمكن أن يكشف له مشوراته الخفية اختار إنسانا متصفا بهذا الوصف البسيط - يوصي بنيه وبيته -  وهذا القول لن يمر سدى على الضمير الحي بدون إثبات مبدأ سام.
أجل، إن كان هناك أمر قد قصر فيه المسيحيون أكثر من غيره من الأمور فهو أمر توصية بئيهم وبينهم، ومن المحقق أنهم لم يضعوا الله نصب عيونهم في هذا الخصوص لأننا لو تصفحنا أسفار الوحي لنستخلص منها النصوص الخاصة بمعاملات الله مع بيته نجدها مشحونة بشرح واف عن استخدام سلطته على مبدأ البر، وحقاً لقد وطد نفوذه المقدس بشجاعة وحزم، فمبدأ التعامل مع أهل بيته مبدأ ثابت لا يتغير ولا فرق عنده إذا تغير فقط بيته الخارجي، أو اذا وصلت صورته الظاهرية من البهاء والعظمة إلى درجة كبرى .
"شَهَادَاتُكَ ثَابِتَةٌ جِدًّا. بِبَيْتِكَ تَلِيقُ الْقَدَاسَةُ يَا رَبُّ إِلَى طُولِ الأَيَّامِ." (مز ۹۳ : ۰ )
والآن قد أصبح من اللازم على خادم الله أن يتخذ سيده كمثال، فان كان الله يحكم بيته بالقوة المستخدمة بالبر فهذا مايجب علىّ، لأنه من الواضح الجلي إذا كنت اختلف عن الله في أي خلق من أخلاقي فمن المؤكد أني أرتكب متن الشطط في هذا الخصوص ... إن الله لا يسوس بيته فقط بهذه الصورة بل أيضا يحب ويكرم من يسير مع بيته علی ذلك المنوال، ففي الفقرة السابقة نجده يقول لا أقدر أن أخفى مقاصدي عن إبراهيم، لماذا لا يخفي عنه ؟ هل كان ذلك لإيمانه الشخصي ونعمته الذاتية فقط ؟ كلا، بل لأنه كان يوصي بنيه وبيته، فكل رجل يعرف كيف يوصى بيته جدير بثقة الله، وهذا الأمر لهو حقيقة راهنة من شأنها أن تنخس قلوب كثيرين من الآباء المسيحيين ، ومع الأسف فإن كثيرين منا عندما يقع نظرهم على ما جاء بتكوين ( 18: 19) يخرون ساجدین أمام ذاك الذي فاه وسطر تلك الكلمة صارخين من أعماق قلوبهم : ياللخيبة - ياللخيبة المخجلة المهينة - ولماذا هذا؟ ولماذا عجزنا عن القيام بأعباء تلك المسئولية الملقاة على عاتقنا فيما يختص بتوصية بيوتنا؟ اعتقادی الجازم انه لا يوجد إلا جواب واحد وهو أننا عجزنا عن أن نتحقق بالإيمان الامتيازات الممنوحة لتلك البيوت لسبب ارتباطها بنا، وانه لأمر جدير بالملاحظة بأن البرهانين اللذين قدمناهما أولا يستحضران لذاكرتنا بكل جلاء ووضوح القسمين الشهيرين لمسألتنا هذه وهما الامتياز والمسئولية ، ففي قضية نوح كانت عبارة "أنت وأهل بيتك" ، واردة في سياق الكلام عن خلاصه، ونفس العبارة وردت في قضية إبراهيم عند ذكر طريقة إدارة بيته وحكمه وسياسته، فما أجمل هذه المناسبة وأولاها بالاعتبار، فالرجل الذي يعجز عن نوال الامتياز بالإيمان يعجز بالحرى عن نوال القوة الأدبية اللازمة للقيام بالمسئولية ، فينظر الله إلى أهل بيت الإنسان كأنهم جزء متمم لشخصه، وهو لا يشاء سواء كان من الوجهة النظرية أو العملية أن يغض الطرف عن هذه العلاقة لأن وراءها ما وراءها من الأضرار الهائلة وتعطيل الشهادة .
فالمسالة تنحصر الآن أمام ضمير كل والد مسيحي في أن يسال نفسه : هل انا متكل  على الله من جهة أهل بيتي وهل أنا أدير بيتي لله؟ ومما لا خلاف فيه أنها مسالة جليلة القدر، ومع ذلك أخشى أن قليلين جداً يشعرون بخطورتها وأهميتها، ولربما القارئ العزيز يطلب برهانا أكثر جلاء مما أوردناه لإثبات ضرورة الاتكال على الله من جهة أهل بيوتنا، فبناء عليه أبدأا باقتباس شذرات من الوحي وهاك واحدة من تاريخ يعقوب "ثُمَّ قَالَ اللهُ لِيَعْقُوبَ: «قُمِ اصْعَدْ إِلَى بَيْتَ إِيلَ" (تك 35 : 1) وهذا ربما يرى فيه البعض أنه خطاب موجه إلى يعقوب شخصياً . كلا ، إن يعقوب لم يفكر قط ولو لبرهة أن يفصل نفسه عن أهل بيته سواء كان من جهة الامتياز أو من جهة المسئولية. ولدفع كل التباس قيل بعد ذلك مباشرة "فَقَالَ يَعْقُوبُ لِبَيْتِهِ وَلِكُلِّ مَنْ كَانَ مَعَهُ: «اعْزِلُوا الآلِهَةَ الْغَرِيبَةَ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَتَطَهَّرُوا وَأَبْدِلُوا ثِيَابَكُمْ. وَلْنَقُمْ وَنَصْعَدْ إِلَى بَيْتِ إِيلَ،" (تك 35 : 1-3 ) ومن هنا يتبين لنا أن دعوة يعقوب وضعت أهل بیته تحت المسئولية، فقد دعى للقيام والصعود إلى بيت الله، وهذه المسألة جعلته يفكر في الحال عما إذا كان أهل بيته في حال ملائم لإجابة تلك الدعوة والتلبية ذلك النداء .
ولو رجعنا إلى الأصحاحات الإفتتاحية في سفر الخروج نجد أن أحد الاعتراضات الأربعة لخلاص إسرائيل التام كان حاوية إشارة صريحة إلى الصغار " فَرُدَّ مُوسَى وَهَارُونُ إِلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالَ لَهُمَا: «اذْهَبُوا اعْبُدُوا الرَّبَّ إِلهَكُمْ. وَلكِنْ مَنْ وَمَنْ هُمُ الَّذِينَ يَذْهَبُونَ ؟» فَقَالَ مُوسَى: «نَذْهَبُ بِفِتْيَانِنَا وَشُيُوخِنَا. نَذْهَبُ بِبَنِينَا وَبَنَاتِنَا، بِغَنَمِنَا وَبَقَرِنَا، لأَنَّ لَنَا عِيدًا لِلرَّبِّ»."، (خر 10 : 8-9) فما دعاهم لأخذ فتيانهم وكل مالهم معهم هو ذهابهم ليعيدوا للرب .
ويمكن للطبيعة أن تقول ما هذا ؟ ماذا تقدر أن تفهم تلك المخلوقات الصغيرة من أن يعيدوا للرب ؟ وهل انتم غير خائفين من أن تمارسوا طقوسا ظاهرية كمنافقين ؟ فجواب موسى كان بسيطا إلا أنه كان شافيا "نذهب بفتياننا ..... لأن لنا عيدا للرب" ، فلم يخطر على بالهم قط أن يسعوا في سبيل الحصول على شئ لأنفسهم وشئ آخر لأبنائهم ولم ينتظروا كنعان لذواتهم ومصر لفتيانهم .
وكيف كانوا يمتعون أنفسهم بالمن في البرية وببركات كنعان من لبن وعسل بينما أبناءهم يقتاتون بثوم وبصل وكرات مصر؟ إن هذا كان أمرا مستحيلا فلم يقبل موسى وهرون عملا كهذا وتحققا أن دعوة الله لهم كانت دعوة لفتيانهم، وفضلا عن ذلك إذا لم ينفذ ذلك الأمر بالتمام فسرعان ما كانوا يخرجون من مصر وسرعان ما كانوا يرجعون إليها إذ تجذب محبتهم لأبنائهم قلوبهم وأقدامهم لمصر ثانية وهذه نتيجة كان لابد من حدوثها، وكان الشيطان عالماً تمام العلم بذلك ولهذا جاء اعتراض فرعون بهذه الصورة "ليس هكذا اذهبوا أنتم الرجال واعبدوا الرب" ، وهذا هو نفس الشئ الذي يعمله الكثيرون من المعترفين بالمسيحية في وقتنا الحاضر فيسلمون بأن أشخاصهم يقومون ويصعدون لخدمة الرب بينما أبناؤهم مازالوا باقين في مصر، ويعترفون أيضاً أنهم سافروا مسيرة ثلاثة أيام في البرية وبمعنى أخر يدعون أنهم ودعوا العالم ويحسبون أنفسهم أنهم مماتون له ومقامون مع المسيح وأنهم قد حصلوا على حياة جديدة وكورثة الله منتظرين أمجادأ سماوية، ولكنهم مع هذا الإدعاء كله يتركون فتيانهم وراءهم في بلاد فرعون وفي أرض الشيطان[2] إنهم وإن كانوا هم أنفسهم قد نبذوا العالم وراء ظهورهم ولكنهم غير مهتمين بعمل ذلك لأبنائهم، فلنأخذ لأنفسنا مثلا من مركز أشخاص معترفين بالإيمان اعترافا اسمياً تجدهم يوم الرب بالتسابيح يرتلون، والصلوات يصلون، والحقائق يتعلمون، وكل هذه المظاهر تدل على انهم أناس متفوقون في الحياة الروحية وفي الاختبار العملى كأنهم على حدود كنعان وبالإيمان أصبحوا فيها، ولكن ياللأسف، ففي صباح الإثنين كل عمل يبدو منهم وكل عادة من عاداتهم وكل شغل يشتغلونه وكل غرض يضعونه أمامهم يغاير ذلك الإعتراف كل المغايرة .
فأولادهم يربونهم للعالم، ومرمي تربيتهم وغرضها وغايتها وأوصافها ومميزاتها كلها عالمي في عالمي، إلا أن موسى وهرون لم ينصرنا هكذا وكذا قلب كل شخص أمين ذی عقل نير لا يشاء أن يفهم هذه المسألة بعكس المقصود منها، فلا اطمح لأبنائی مبدأ أو مطمحاً أو نصيباً خلاف ما اشتهيه لنفسي، ولا ينبغي أن أدربهم أو أضع أمامهم وجهة خلاف ما أنا ساع إليه، فإذا كانت كفايتي في المسيح والأمجاد السماوية ففيها أيضا كفايتهم ، لكني ملزم أن أقدم برهانا جلياً باتاً صريحاً على اكتفائي بالمسيح وأمجاد السماء .
ولا ينبغي أن صدى أخلاق الوالد يخيم بظلال الشك والريبة حول الغرض الحقيقي المتعمق في نفسه فيما يختص بتربية أبنائه ، فإذا أخبرت ابنى إني أسعى له سعيا جدياً لأصل به إلى المسيح وإلى السماء فماذا يكون جواب ابني عندما یرانی أدربه بالفعل للعالم؟ فأي الأمرين يصدق ؟ أي الأمرين يكون أشد تأثيرا على قلبه وحياته؟ أهو كلامي الموجه له أم أعمالي التي تبدو أمامه؟ ليخرج الجواب من القلب، وليكن جوابا صادقاً معبراً عما في الضمير، جوابا صادرا من أعماق النفس، جواباً يوضح المسألة من كل وجوهها وبكل قوتها، وإني واثق أنه قد آن الأوان أن نعبّر عما في ضمائرنا بصراحة، وكل شخص دقيق الملاحظة كثير الاقتراب لعرش النعمة مواظب على الصلاة يمكنه بسهولة مشاهدة ما آلت إليه المسيحية في زماننا الحاضر، فصورتها أصبحت مشوهة وصوتها خافتا، وبالجملة يحكم أنه لابد من وجود أخطاء هائلة مسببة لتلك الحالة .
ومن جهة الشهادة لابن الله نادرا ما يفكر الإنسان فيها وهذا مما يؤسف له جد الأسف ، والغرض الأكبر أمام المسيحيين هو الخلاص الشخصي، وكأننا هنا متروکون لنخلص وليس كأناس مُخلّصين ليجدوا الفادي، ومع ذلك أری من واجب المحبة إيضاح المسألة بأمانة فأقرر أن أغلب التقصير في الشهادة العملية للمسيح ناتج عن إهمالنا للمبدأ المتضمن في عبارة "أنت وأهل بيتك" ومما لا ريب فيه أن الإهمال في هذا الصدد لهو السبب الأكبر في تعطيل الشهادة، ومن المحقق أن محبة العالم والارتباك وكافة المساوئ الأدبية قد دخلت بيننا بسبب ترك أبنائنا في مصر، ولقد رأينا الكثيرين منذ عشر سنين أو خمس عشرة أو عشرين سنة مضت كانت لهم مكانة سامية في تأدية الشهادة وكان لهم الاجتهاد الوفير في القيام بالخدمة وشهد لهم الكثيرون بأنهم خدموا الرب من قلوبهم واهتموا بعمله غاية الاهتمام، ولكن مع الأسف نراهم الآن وقد رجعوا للوراء وقواهم قد خارت إذ أصبحوا بالجهد قادرين على إبقاء رؤوسهم على سطح الماء عاجزين تمام العجز على مساعدة الآخرين للخلاص، وكل هذا يقدم للآباء المسيحيين أرباب العائلات إنذارا خطيرا وهو أن يتحذروا من ترك فتيانهم في مصر .
وكم من مسيحي مكسور القلب في الوقت الحاضر يبكي بكاء الحسرة بسبب غلطه الشائن إزاء أهل بيته الذين تركهم وراءه في مصر محاطين بخديعة ما أكبرها وبظروف ما أسوأها وأشدها سواداً حالكاً، ولو همّ يوما من نوم غفلته بفعل الإيمان الحقيقي والمحبة الصادقة والقي كلمة على مسمع الذين نشأوا حوله يقابلون كلمته بأذن صماء وبقلب غير مكترث وبنفس فاترة، ولكنهم مع هذا يتمسكون بحزم وعزم بمصر التي تركهم فيها لعدم إيمانه وعدم تبصره في العواقب، فيا لها من حقيقة مؤلمة ومجرد سردها يوخز ضمائر الكثيرين، فالحق يجب أن يؤيد لأنه وإن ألم البعض فذكره يكون إنذارا للآخرين ولابد من إيراد البراهين[3].
وفي سفر العدد يجئ أمامنا ذكر الفتيان، ولقد رأينا أن الغرض الحقيقي للنفس المتحدة مع الله هو الخروج بالأبناء من مصر، ولا ينبغي أن نتكل على الله فقط في أمر إخراجهم من مصر بل أيضا في إحضارهم إلى كنعان، ولقد خاب إسرائيل خيبة تامة في هذا الخصوص، فبعد رجوع الجواسيس وإبداء تقريرهم المثبط للهمم نطق الجمهور المحتشد هذه الكلمات المثيرة للأشجان الداعية للحزن والأسف الشديدين " وَلِمَاذَا أَتَى بِنَا الرَّبُّ إِلَى هذِهِ الأَرْضِ لِنَسْقُطَ بِالسَّيْفِ؟ تَصِيرُ نِسَاؤُنَا وَأَطْفَالُنَا غَنِيمَةً. أَلَيْسَ خَيْرًا لَنَا أَنْ نَرْجعَ إِلَى مِصْرَ؟»" (عدد 14 : ۳) يالفظاعة تلك الحالة التي وصلوا إليها !! وبالهول ذلك الأمر !!.
فلقد تقرر في نفوسهم صدق تنبؤات فرعون المشئومة عن هؤلاء الفتيان "انظروا إن قدام وجوهكم شراً". حقاً إن عدم الإيمان دائما يبرر أعمال الشيطان ويجعل الله في مستوى الكاذبين، بيد أن الإيمان يبرر دائماً أعمال الله ويثبت أن الشيطان کاذب وأبو الكذابين، ويالها من حقيقة ناصعة في الآية أنه "بحسب إيمانك يكون لك" ، ومن الجهة الأخرى أن الإيمان كما يزرع يحصد وهكذا كان الحال مع إسرائيل التعس لسبب عدم إيمانه " قُلْ لَهُمْ: حَيٌّ أَنَا يَقُولُ الرَّبُّ، لأَفْعَلَنَّ بِكُمْ كَمَا تَكَلَّمْتُمْ فِي أُذُنَيَّ. فِي هذَا الْقَفْرِ تَسْقُطُ جُثَثُكُمْ، جَمِيعُ الْمَعْدُودِينَ مِنْكُمْ حَسَبَ عَدَدِكُمْ مِنِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً فَصَاعِدًا الَّذِينَ تَذَمَّرُوا عَلَيَّ. لَنْ تَدْخُلُوا الأَرْضَ الَّتِي رَفَعْتُ يَدِي لأُسْكِنَنَّكُمْ فِيهَا، مَا عَدَا كَالِبَ بْنَ يَفُنَّةَ وَيَشُوعَ بْنَ نُونٍ. وَأَمَّا أَطْفَالُكُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ يَكُونُونَ غَنِيمَةً فَإِنِّي سَأُدْخِلُهُمْ، فَيَعْرِفُونَ الأَرْضَ الَّتِي احْتَقَرْتُمُوهَا فَجُثَثُكُمْ أَنْتُمْ تَسْقُطُ فِي هذَا الْقَفْرِ،" (عدد 14 : ۲۸ - ۳۲). وكأنهم بتلك الاحتجاجات المشئومة الصادرة عن منتهى الرعونة قد قرروا بأن قوة إله إسرائيل قد عجزت عن حفظ أولادهم، وهذه كانت خطية هائلة وقد دونت لنصحنا وإنذارنا، وكم من مرة يتساءل قلب الوالد المسيحي فيما يختص بكيفية معاملة الأطفال بدلا من أن يقبل ببساطة ما دونه الله عنهم، فيقولون - وما أكثر ما يقولون - إننا لا نقدر أن نصير أبناءنا مسيحيين، ولكن هذه ليست قضيتنا ولاموضوع بحثنا لأننا لم نطالب قط أن نصيرهم كذلك لأن هذا من شئون الله وحده ومن اختصاصاته فقط، ولكن إذا قال لنا أن نحضر فتياننا معنا . هل نرفض؟ اجل إني لا أرغب لابني أن يمارس سطحية طقوسا دينية غير مجدية، ولا أقدر أن أصيره مسيحياً حقيقياً ، ولكن إذا كان الله بنعمته يقول لي أني أنظر لأهل بيتك كأنهم جزء من شخصك، وفي مبارکتك أباركهم ، فهل يجوز لي بعد ذلك لعدم إيماني أن ارفض هذه البركة وتلك المنحة خيفة أن أعلمهم فرائض ظاهرية أو أن أعجز عن توصيلهم لمعرفة وإدراك الحقائق الإلهية ؟ حاشا لي أن أقدم على ذلك، بل بالأولى لي أن أفرح فرحة عظيمة جدا لأن الله قد بار کنی برکات سماوية كاملة حتى أنها لم تقتصر على شخصي ولكن تتعداها إلى كل من يرتبط بيّ .
ومادمت أرى أن النعمة قد منحتني البركة فيلزمني ان أتقبلها بإيمان وامتلكها لنفسي ولأهل بیتی[4] .
ما يشتركون مع الله في تدبير أمورهم بأنفسهم ، وبمزيد الأسف نقول أنه كثيراً إلا أنه لا يغيب عن بالنا أن طريقة إثبات دخولنا في دائرة البركة هو القيام بأعباء تلك المسئولية، فمجرد القول بأني متكل على الله في إحضار أبنائي لكنعان وفي نفس الوقت أربيهم بالفعل للوجود في مصر، فهذا منتهى الخداع وغاية الغرور، فسيرتي تكذب ادعائي ولا داعي للاستغراب بعد ذلك إذا كانت عدالة الله تحتم على أن أذوق ثمرة غرسى هذا.
ومما لا خلاف فيه أن الاعتقاد الظاهري يؤيد دائما بالسلوك العملى، وفي هذا الصدد كما في كل أمر أخر كلمة الله صادقة غاية الصدق ، وإذا قام الإنسان بتنفيذ إرادة الله في هذا الخصوص فيمكنه أن يتحقق من صحة هذا التعليم، إلا أننا كثيرا ما نريد معرفة ماهية التعليم قبل تنفيذ إرادة الله، وما نتيجة ذلك إلا انحدارنا إلى أحطّ درجات الجهل والغباوة، فإرادة الله فيما يختص بأبنائنا هي أن ننظر إليهم كما ينظر هو إليهم، وباعتبارنا إياهم كأنهم جزء من أنفسنا ونربيهم على هذا الاعتبار عينه، ولا يكون ذلك بمجرد أن نطمح فيهم أن يصبحوا يوما ما من أولاد الله ولكن بأن نعتبرهم إنهم نشأوا فعلا في مكان الامتياز ومعاملتهم على هذا الأساس في كل شأن من شؤونهم، ومن استطلاع أفكار كثيرين من الوالدين ومراقبة معاملتهم لأبنائهم يلوح عليهم وكأنهم يعتبرون أبناءهم من أتباع الوثنية، فلا علاقة إذا تربطهم بالمسيح ولا رابطة لهم بالكلية مع الله، وإن هذا لمن المحقق تقصير هائل في فهم القصد الإلهي في هذا الصدد ، فالمسألة ليست قائمة كما يتوهم الكثيرون على معمودية الأبناء وهم صغار أو كبار، بل هي مسألة الإيمان بقوة واتساع تلك العبارة المعبرة عن عظم نعمة الله - أنت وأهل بيتك - عبارة سندرك قوتها وجمالها كلما تقدمنا في استجلاء مغزاها وفهم معناها ، ولو تصفحنا سفر التثنية لوجدنا المرة بعد الأخرى تعليمات لشعب إسرائيل بأن بلقنوا بنيهم وصايا وفرائض وأحكام الناموس، وأولئك الأبناء أنفسهم شوهدوا كثيرا يستفهمون عن ماهية وغرض تلك الوصايا المختلفة والطقوس المتعددة, ومن السهل جدا على القارئ أن يستنتج ذلك من تصفح الفصول الخاصة بها .
والآن أتقدم إلى ترديد تصميم يشوع ، ذلك التصميم البات . التصميم القاطع . التصميم الخطير الشأن . التصميم الصادر عن إخلاص قلبی "فَاخْتَارُوا لأَنْفُسِكُمُ الْيَوْمَ مَنْ تَعْبُدُونَ .... وَأَمَّا أَنَا وَبَيْتِي فَنَعْبُدُ الرَّبَّ" (يش 24 : 15) ولنلاحظ كلمتى "انا و بیتی"، فنجد انه لم يكن بالأمر الكافي أنه هو نفسه يكون محرراً من كل نجاسات عبادة الأوثان المحرمة، بل رأی لزوما لملاحظة حالة بيته الأدبية وسيرة فتيانه العملية، وإذا كان شخص بشوع غير عابد للاصنام وابناؤه عابدين لها فهل كان في هذا الأمر تبرئة لساحة يشوع من تلك الوصمية المهينة ؟وبالتأكيد لا، لأنه مما لا خلاف فيه أن الشهادة للحق كانت تتعطل كثيرأ بعبادة أهل بيت يشوع للأصنام بمقدار ما کانت تتعطل لو كان شخصه عابداً لها، والعدالة كان ولابد من إجرائها على الحالين.
ومن المستحسن أن نرى هذا أمراً واضحاً جلياً ، لأن فاتحة سفر صموئيل الأول مؤيدة تمام التأييد لصدق هذا المبدأ ، "فَقَالَ الرَّبُّ لِصَمُوئِيلَ: «هُوَذَا أَنَا فَاعِلٌ أَمْرًا فِي إِسْرَائِيلَ كُلُّ مَنْ سَمِعَ بِهِ تَطِنُّ أُذُنَاهُ. فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أُقِيمُ عَلَى عَالِي كُلَّ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ عَلَى بَيْتِهِ. أَبْتَدِئُ وَأُكَمِّلُ. وَقَدْ أَخْبَرْتُهُ بِأَنِّي أَقْضِي عَلَى بَيْتِهِ إِلَى الأَبَدِ مِنْ أَجْلِ الشَّرِّ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ بَنِيهِ قَدْ أَوْجَبُوا بِهِ اللَّعْنَةَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَرْدَعْهُمْ" ( 1صم 3 : 11-13) .
ومن هنا نرى أنه لا عبرة أصلا بأخلاق خادم الله الشخصية في حالة عجزه عن إدارة بيته حسنة، فالله لا يراه في عينيه خالياً من الذنب معافي من المسئولية بأي حال من الأحوال، وكان من الواجب على عالى أن يردع أبناءه. وكان من امتيازاته كما من امتیازات كل مؤمن أن يتقوى بقدرة الله غير المحدود في إخضاع كل فرد من أفراد بيته إذا عمل على تعطيل الشهادة بسوء سلوكه، ولكنه في ذلك الأمر الهام قصَّر قصوراً هائلا، ولهذا قد حلّت به نهايته المريعة بأن كُسر عنقه بسبب إهانة بيت الله لأنه لم يكسر قلبه بسبب الحالة الرديئة التي وصل إليها بيته، ولو كان عالي اتكل على الله في أمر تأديب أبنائه المردة ولو عمل في ذلك الشأن بأمانة وهمة ولو قام بجراءة بأعباء المسئولية الملقاة على عاتقه لم يكن هناك محل لإهانة بيت الله ولضياع التابوت، وبالاختصار لو كان نظر إلى بيته كجزء من شخصه وأوجده في حالة كما يجب أن يكون عليها لما كان هناك محل لجلب دينونة الله القاسية على نفسه - دينونة الله العادل - الإله الذي من أهم مبادئه عدم فصل هذه الكلمات - أنت وأهل بيتك - عن بعضها.
ومع هذا كله نرى كم من والد قد سار بدون مبالاة على خطر عالي في هذا الخصوص، ونظرا لسوء فهمهم حقيقة ارتباطهم بأبنائهم قد سمحوا لهم من الطفولية إلى الحداثة إلى الرجولية أن يخططوا لأنفسهم خطة التهور والانغماس في أسفل الرغائب واحطّ الشهوات، وليس فقط أن هؤلاء الأباء قد ضلوا عن السير بالإيمان في أمر تربية أبنائهم بل وأيضا قد تدهوروا أدبيا إلى درجة أنهم فقدوا كل سلطة أبوية ليلزموا أبناءهم باحترامهم وإطاعتهم، وحالة كهذه تقدم لنا بلا مراء منظراً من أشد المناظر إيلاما للنفس ، وهو منظر الفوضى وغايتها والعربدة ونهايتها، وأسمي مقصد يلزم المؤمن أن يضعه نصب عينيه في إدارة بيته هو تقديم شهادة تكريماً لذاك الذي يخصه ذلك البيت، وإن أساسا كهذا لهو الأساس الحقيقي لكل عمل من أعمالنا، فلا ينبغي أن أنظم بیتی وأسوس أفراده بحزم لأن وجودهم في حال مغاير لذلك قد يسبب لي الانزعاج وتكدير الخاطر ولكن أقوم بذلك الأمر لأن كرامة الله ومجد اسمه لهما دخل كبير في الإدارة الحسنة لعائلات الخدام الذين هم من أهل بيته السماوي.
ولربما يقول قائل بأنه للآن لم نقتبس شيئا من الاستشهاد والاستدلال سوی ما جاء به العهد القديم ، و استنتاجاتنا قائمة كلها على تلك المقتطفات، وحيث أن مبدأ الله في الاختيار هو النعمة ومجرد الرحمة فقد يشاهد كثيراً أن من بين المختارين رجل صالح بغض النظر عن كل علاقاته العائلية وروابطه البيتية ، فنجده من أطهر المؤمنين سيرة وأكثرهم تضحية وأنقاهم سريرة وأرقاهم عقلا، وهو مع ذلك رب لأحطّ الأسر العالمية السافلة غير المنظمة، فخلافاً لما تقدم أقول أن أحكام الله الأدبية لا تتغير، وفي كل زمن من الأزمان وفي كل عصر من العصور هي هي لا تتبدل، فليس من المعقول أن الله يعلم الإنسان في وقت أنه هو وبيته جزء لا يتجزأ ويمدحه إذا قام بإدارته حسناً وفي وقت أخر يعلمه بأنهما جزءان منفصلان الواحد مستقل عن الآخر تمام الاستقلال، وبذلك يسمح الله أن يحكم بيته كما يهوى ويريد، إن هذا أمرا من المستحيلات ولا يغيب عن البال أن استحسان الله واستهجانه للأشياء سببه حقيقة الله في ذاته, وبما أن الله يحكم بيته طبقا لما هو عليه في ذاته فيأمر خادمه أن يحكم بيته على هذا المبدأ عينه، وهل من المعقول أن حلول النعمة وظهور المسيحية يسمحان لنا بقلب هذا النظام الأدبي السامی رأساً على عقب؟ حاشا لله أن يكون كذلك، بل من المؤكد أن حلول النعمة وظهور المسيحية قد زادا هذا النظام البديع بهاء ورواء، فهل كان بيت اليهودي جزءا من ذاته وبيت المسيحي يكون على خلاف ذلك ؟ من المحقق انه أمر لا يقبله ذو عقل، وإلا نكون قد أسأنا استعمال هذه الكلمة السماوية وجعلنا تطبيقها على غير المقصود منه، فالنعمة تطالبنا أن نطبق هذا المبدأ على كل سوء أو فساد أخلاق تبدو علاماته في بيوتنا المسيحية في وقتنا الحاضر تطبيقا صارماً ، وهل النعمة تسمح لنا أيضا بأن الإرادة تذهب شوطاً بعيدا من العناد والتمرد؟، وهل النعمة تصادق على الانغماس في الشهوات السافلة والأهواء الفاسدة ورغائب الطبيعة المتمردة وهياج الطباع الثائرة؟، فلو كانت هذه جدلاً هي مميزات النعمة - وحاشا أن تكون - فلا كانت النعمة نعمة فيما بعد ولا استحقت إطلاق هذه التسمية الجميلة عليها، ولا كان عجيبا إذا كنا نسئ فهم المعنى الحقيقي لهذه الكلمة ونتصور النعمة بهذا الشكل، ولكان هذا إساءة هائلة ونكراناً لوجود الله ليس فقط كحاكم لبيته السماوي بل کمدير لهذا الكون بأجمعه، وإذا وافقنا على إطلاق هذه التسمية الأخيرة على النعمة نكون قد خالفنا تعاليم الوحي على هذا الأمر الخطير الشأن مخالفة واضحة.
ودعنا نتصفح العهد الجديد لعلنا نجد على صفحاته المقدسة أدلة ساطعة تؤيد بحثنا هذا، وإلا هل يخطر ببال أحدنا أن الروح القدس في العهد الجديد يُحرم أهل بیت الإنسان من الامتيازات والمسئولية التي كانت لهم في العهد القديم؟ حاشا، ولنبدأ بإتيان الأدلة، ففي وصية المسيح لتلاميذه نجد هذه العبارات مدونة في إنجيل (متى 10 : 11 – ۱۳) "وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ دَخَلْتُمُوهَا فَافْحَصُوا مَنْ فِيهَا مُسْتَحِقٌّ، وَأَقِيمُوا هُنَاكَ حَتَّى تَخْرُجُوا. وَحِينَ تَدْخُلُونَ الْبَيْتَ سَلِّمُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مُسْتَحِقًّا فَلْيَأْتِ سَلاَمُكُمْ عَلَيْهِ، وَلكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا فَلْيَرْجعْ سَلاَمُكُمْ إِلَيْكُمْ" وجاء أيضا في إنجيل (لوقا ۱۹: 9-10)  "فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«الْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهذَا الْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أَيْضًا ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ». وهذا ما يمكن أن يقال بخصوص كرنيليوس، ففي سفر (الأعمال 11 : 13-14 ) نقرأ "فَأَخْبَرَنَا كَيْفَ رَأَى الْمَلاَكَ فِي بَيْتِهِ قَائِمًا وَقَائِلاً لَهُ: أَرْسِلْ إِلَى يَافَا رِجَالاً، وَاسْتَدْعِ سِمْعَانَ الْمُلَقَّبَ بُطْرُسَ، وَهُوَ يُكَلِّمُكَ كَلاَمًا بِهِ تَخْلُصُ أَنْتَ وَكُلُّ بَيْتِكَ." وهكذا في حادثة سجان فيلبي في سفر( الاعمال 16 : 31) "فَقَالاَ:«آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ». وبعدها ترى نتيجة إيمانه العملية "وَلَمَّا أَصْعَدَهُمَا إِلَى بَيْتِهِ قَدَّمَ لَهُمَا مَائِدَةً، وَتَهَلَّلَ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ إِذْ كَانَ قَدْ آمَنَ بِاللهِ. " (أع 16 : 34) وفي نفس الإصحاح  ع 15 تقول ليديا ، "«إِنْ كُنْتُمْ قَدْ حَكَمْتُمْ أَنِّي مُؤْمِنَةٌ بِالرَّبِّ، فَادْخُلُوا بَيْتِي وَامْكُثُوا». فَأَلْزَمَتْنَا".
 في 2تي 1 : 16 يعطى الرب رحمة لبيت أنيسيفورس، لماذا ؟ هل بسبب أعمال هذا البيت نحوه؟ كلا، بل "لأَنَّهُ مِرَارًا كَثِيرَةً أَرَاحَنِي وَلَمْ يَخْجَلْ بِسِلْسِلَتِيوهكذا الأسقف ينبغي له أن يدبر بیته حسنا له أولاد في الخضوع بكل وقار، لأنه إن لم يعرف إنسان أن يدبر بيته حسنا فكيف يعتني بكنيسة الله؟ وتری في الآيات المتقدمة أن هذه الحقيقة العظمی قد وضحت وضوحاً تاماً وهي أنه إذا منح الله إنسانا بركات ومسئوليات يمنح أهل بيته مثلها، ولو تصفحنا كلمات الوحی بتمامها نجد أن هذا المبدأ العملى ظاهرا ظهوراً جليًا لأنه يحق لله أن يعلم أولادة هذا المبدأ، ولكن مع الأسف أيها الأخوة المحبوبون في الرب قد فشلنا في هذا الأمر بعينه فشلا مريعاً، وكأن بنا بخيبتنا في هذا الخصوص وغيره قد سببنا للشهادة الابن الله في الأيام الأخيرة تعطيلاً هائلاً. وليس بخاف أنه يوجد أنواع كثيرة من الشرور كالكبرياء والغرور ومحبة العالم وعبادة الشهوات والرغائب المتشعبة، والاشتغال بفتور في عمل الله والسعي في الخدمة بدون إرشاد الرب، والظهور بمظاهر غير روحية من مجرد مجهود جسداني أو عقلي، واستخدام كلمة الله كوسيلة لإظهار ذواتنا وحب التباهي أمام الناس، والادعاء الكاذب بمركز ليس لنا وبمواهب ليست فينا وبتقديم حقائق للسامعين لم تخضع لها ضمائرنا بالمرة ووضع أمام الآخرين نماذج لم نقس أنفسنا عليها بالمرة أمام الله، ونقص هائل في ضبط سلوكنا الأمر الذي يؤدی بنا لمعرفة البون الشاسع مابين إعترافنا بالمبادئ وممارستنا لها عمليا، وفي هذه الأشياء كما في كثير غيرها قد ظهرت علينا علامات منتهى الفشل والخيبة، الخيبة التي أحزنت الروح القدس الذي به قد ختمنا وجلبت على الاسم الكريم الذي تسمينا به عاراً شائناً. وهذا التصور من المحقق أن يضعنا في المسوح والرماد ، مركز العار وخجل الوجوه ، مركز التذلل والاعتراف، وسنبقى هناك في ذلك المركز المهين لا لبرهة أو ليوم أو لأسبوع بل إلى وقت يری الله أنه آن الآوان لإنقاذنا منه ومن المؤسف أيها الإخوة أنه كثيرا ما نحضر اجتماعات للصلاة والتذلل، وسرعان ما ننهض على أقدامنا إلا ونبرهن بسيرتنا الشخصية وبحالتنا الروحية على أننا لم نتعمق في معرفة حقيقة مركزنا أمام الله، ومهما أغلظنا في القول الآن فلا يمكن أن نصل إلى جذور هذا المرض المتأصل فينا، وما لم نسلم ضمائرنا تسليماً كلياً لعمل الله الكامل فلا تكون ضمائرنا مجهزة لبذر الحقائق الإلهية فيها، فالله يستخدم الحق كآلة لتجهيز قلوبنا وغرسها، فما علينا إلا أن نتقدم ليعمل الحق فينا بقلب مخلص وضمير حساس وعقل مستقیم. فإذا عمل الحق فينا على هذا النمط ماذا يحدث؟ ماذا يكون حالنا ؟ ماذا يكون مظهرنا في الدائرة التي وضعنا فيها السيد لنعمل حتی يأتي؟
فلا يمكن أن نستخلص لأنفسنا جوابا من كتاباتنا أو مجلاتنا، لأنه وجد بالاختبار أنه من السهل تدوین الحقائق في الكنيسة، ولكن من الصعوبة بمكان غرسها في ضمائرنا وإظهارها في حياتنا اليومية العملية، وكتاباتنا ليست هي المعيار الحقيقي لمعرفة حالتنا وما نحن عليه، إلا أنها لو امتحنت إمتحانا روحيا هادئاً طاهراً کاملاً بقوة إبصار الله البار لاشك أنها توجد حاوية لخليط غير نقي ولمواد تافهة لا قيمة لها، ولا يقتصر الأمر على هذا بل يتعداه أيضاً إلى وجود غلطات مهينه - أمر يدعو للحزن والتذلل بقلوبنا أمام إلهنا .
وإن كانت كتاباتنا لا تظهر حقيقة حالنا فهل في إجتماعنا ما يظهر ما نحن عليه؟ وهناك اجتماعات للعبادة، اجتماعات للصلاة واجتماعات للبنيان، فماذا في هذه الاجتماعات؟ هل فيها شي من القوة والانتعاش والتعزية؟ ألا يشعر المئات منا - وأليس معلومة لدى الكثيرين من اجتماعاتنا مع استثناء القليل منها - بالكثير من الكسل والفتور والملل وعدم البنيان؟ هل من سبب لهذا الحال؟ فوعد المسيح بیقی صادقاً "لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ»" (مت 18 : 20 ) وإذا كلما تحققنا حضوره ، هناك القوة، إلا أنه لا يعلن حضوره ما لم تكن قلوبنا نقية أمامه، كما أن غرض إجتماعنا في حضرته هو سكب قلوبنا قدامه، فلو انشغلت قلوبنا بأی شئ سواه فلا نكون من الصادقين إذا ادعينا أننا مجتمعون لاسمه، وبالتبعية لا يعلن حضوره لنا بصورة بارزة محسوسة، وكم من الناس يحضرون الاجتماعات بدون أن يكون المسيح وحده غرض قلوبهم، فالبعض يذهبون لسماع مواعظ فيها بنيانهم، فقصد هؤلاء الذي لأجله يجتمعون هو البنيان وليس شخص الرب يسوع. ولا یتبررون بقولهم إن غرضهم هو البنيان وشخص المسيح لان الإنسان لا يمكنه أن يكون له غرضان نصب عينيه في آن واحد، ومن هنا يتبين أنه إذا كان غرضي البنيان فلست مجتمعاً باسم المسيح ولهذا لا يمكنني أن أتحقق من حضوره الذي وعد به "لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ»" ، فقد توجد الإحساسات الراقية والاهتمامات العقلية بالأمور الروحية والمباحثات الجدية في الآيات الكتابية أو الحقائق السماوية، نعم قد توجد هذه وأكثر من هذه ولكن بدون تحقق وجود المسيح المقدس السامي وسط المجتمعين.
وآخرون يأتون إلى الاجتماع وهم مملؤون من الأفكار بخصوص أمر يهمهم التكلم عنه أو ينوون الابتداء فيه. فمثلا لديهم فصل يقرأونه أو ترنيمة بطلبونها او ملاحظات يلاحظونها أو صلاة يصلونها وهم على هذا الحال يترقبون فرصة مناسبة ليدفعوا بأنفسهم وينفذوا أغراضهم، وبهذا الأسلوب يتبين أن المسيح ليس هو غرض قلوبهم ولكن مشغوليتهم في ذواتهم وما ينشأ عن ذواتهم من أعمال واقوال تافهة. واشخاص مثل هؤلاء يشوهون الإجتماع وبسلبونه القداسة والقوة والانتعاش، وفي عرف هؤلاء، ليس المسيح هو الرئيس بل الجسد، وتحت هذه الظروف نكون في خطر أن يظهر الجسد، وإن كان الجسد في وسعه أن يظهر في مجمع سياسي أو محفل أدبي ولكن في إجتماعات القديسين ينبغي أن يكون كأنه لم يكن، وليس لى أدنى حق بصفتي مؤمن أن أحضر بين المؤمنين وفي حضرة الرب وبين يدي مقال محضر سابقاً او اصحاح مجهز مقدماً أو ترنيمة اختيرت من قبل ، ولكن ما على إلا بان احضر في

حضرته واسلم نفسى تسليما كليا لعمله التام. و بالاختصار يجب أن أجتمع باسمه ويجب أن أضعه كغرضي الوحيد وانسى بعد ذلك كل شئ سوى شخصه المبارك، وليس معنى هذا أننا إذا إتخذناه غرض قلوبنا نحرم من البنيان والتعزية ولكن الحقيقة إننا لا نُحرم من تعزية ما بل نحصل على وافر التعزية فقط إذا اتخذناه غرض قلوبنا. يجب ان نختار تمجيد اسمه لا تمجيد الذات، فاتخاذنا المسيح كغرض قلوبنا يعطينا البنيان، ولكن إذا كان غرضي في الاجتماع البنيان فسأخسر الغرضين وافشل في نوال أي من الأمرين، ومن جهة أخرى ما اكثر الذين يحضرون الاجتماعات المسيحية وضمائرهم غير مطهرة وقلوبهم غير محكوم عليها وهم عديمي الصلوات وقليلوا الايمان جامدون وخالون من كل نسمة، يجلسون مع الجالسين بدون غرض بالمرة أمام عيونهم، فهم يذهبون على سبيل العادة ليس إلا وليس لهم أي غرض يملأ قلوبهم، ولمثل هؤلاء ما الاجتماع إلا طقوس دينية ظاهرة، ولا يكونون في الاجتماع إلا كحمل ثقيل على الآخرين وهم يقفون في الطريق كأكبر عائق لحلول البركات ولمنح التعزيات، ولاعجب فان اسبابا كثيرة تعطل جريان ينابيع القوة والحياة الروحية في الاجتماعات العمومية، وهناك أسباب أخرى تدعو لإضعاف الشهادة بيننا، ولنعرف عمق هذه المسألة يجب أن يكون لدينا مجال تام لعمل الضمير وأن نسال صادقين ":«هَلْ أَنَا هُوَ يَارَبُّ؟» (مت ۲۱ : ۲۲)، ومن المحال أن نتوقع بركة أو انتعاشا إلا بعد أن نحكم على أنفسنا حكما شديدا ونؤئب ذواتنا على الخطية تأنيباً عنيفاً، ولو أردنا أن نبدأ بإعلان شهادة للمسيح من جديد يجب أن نبدأ بها من عند قدميه بعد أن نأخذ المركز الحقيقي الذي صار لنا، ونعرف موضع عجزنا وضعفنا وقصورنا، وليس من أحد يقدر ان يرمی الأخر بحجر ليبرر نفسه ، كلنا أخطأنا وأعوزنا مجد الله وشهادة ابن الله وكلنا تسببنا - كل بحسب طرقه وعاداته - في إحداث ضعف يشبه الموت في كل أعراضه .
وهل هذا الموضوع يمكن إعتباره مسألة كنسية، إختلافاً على عقيدة من العقائد أو حقيقة من الحقائق مهما زادت أهميتها؟ كلا أيها الأخوة فإن العالم والجسد والشيطان هم أساس حالتنا المحزنة التي وصلنا إليها، وكل منا مطالب بمحبة المسيح أن يحكم على نفسه انفراديا ويحكم على ذاته حكما شديدا في حضرة الله، وإني لواثق أنه إذا نفذ هذا الحكم بدقة نجد أن أهم واكبر أسباب الضعف والفشل ينطوى في عدم إدراكنا لقيمة هذه العبارة "انت واهل بيتك" ، ولايمكننى أن أحكم على إنسان من مجرد رؤیاه أو سماعه في اجتماع عام، فقد تلوح عليه علامات الشخص الروحي وقد يفوه بحقائق هامة وغاية في الإبداع، ولكن دعنا نرافقه لمنزله وهناك - هناك فقط - أعلم حقيقة الحال، فقد يتكلم مثل ملاك آت من السماء ولكن إذا كان بيته لا یدار حسب فكر الله فهو لن يكون شاهدا أمينا للمسيح.
ولا خلاف آن تحت لفظة «بيت، تنطوي ثلاثة معاني، البيت نفسه والأولاد والخدم , وكل هؤلاء سواء في نظر أبيهم أفرادا أو إجمالا ينبغي أن ينطبع عليهم علامات الله الواضحة، وبيت إنسان الله يجب أن يُساس لله وفي اسمه ولمجده لأن رأس الأسرة المسيحية ماهو إلا وكيل في بيته، فهو ملزم بأن يبرهن بسيرته على قوة الله سواء كان بصفته والداً أو سيداً، وهو مطالب بمحبة الله أن يسير في نور هذه الحقيقة الساطعة، وعلى هذا المبدأ عينه ينبغي أن يجهز لجميع أفراد أسرته لوازمهم وان يسوسهم أيضأ بسياسة حكيمة، ولهذا قيل "وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْتَنِي بِخَاصَّتِهِ، وَلاَ سِيَّمَا أَهْلُ بَيْتِهِ، فَقَدْ أَنْكَرَ الإِيمَانَ، وَهُوَ شَرٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ" (1تی 5 : ۸)، وإذا أهمل الدائرة التي وضعه الله فيها يبرهن على جهله بحقيقة من ينوب عنه وعلى عدم مشابهته له في شئ ما، وهذا الأمر واضح كل الوضوح فلا يحتاج إلى بيان فلو أردت أن اعرف كيف أعول و أسوس أهل بيتي يلزمني أن أفهم أولا كيف يعول الله ويسوس أهل بيته، وهذه هي الطريقة المثلى التي يجب علىَّ أن أتعلمها وأسير عليها. والمسألة التي نحن في إيضاحها ليست هي مسألة تغيير أفراد الأسرة تغييرا فعلياً - ليس هذا ما أريد الآن إيضاحه بالمرة - بل ما أريد أن أضعه نصب عين رب البيت أن الأمور بتمامها من أولها لأخرها يجب أن تدار وكأنها في حضرة الله معمولة وتحت سلطانه , وإن كل واحد من أهله ينبغي له أن يكون عالماً تمام العلم بوجود الله وسط أفراد الأسرة , ويجب أن رب الدار بعمل كل عمل أمام أهل البيت بحال يدعوهم أن يتأكدوا بأن الله في وسطهم، ولا يقوم رئيس البيت بهذا الأمر الهام لينال احتراما ويحوز إجلالاً من أفراد البيت بل ليتمجد اسم الله فقط بسببه، وليس هذا بالشئ الكثير لنقوم به بل يجب ألا نريح ضمائرنا على شئ خلاف ذلك، وما بيت المؤمن إلا صورة مصغرة من بيت الله ليس فقط في مشابهة أفراد أهل البيت الأول لأفراد أهل البيت الثاني بل في طريقة قيادة وسياسة الجميع..
وإزاء هذه الحقائق الهامة قد يهزأ البعض من هذا القول ويرون من الصعوبة بمكان أن يعيشوا بموجبها، فلمثل هؤلاء أوجه لهم سؤالا واحدا، ألا تعلم كلمة الله المؤمن أن يسوس بيته على هذا المثال؟ وإذا أجاب بالإيجاب فويل لي بصفتي مؤمن إذا أبيت أو عجزت أن أقوم بذلك خير قيام.
وأما العيب الفاحش الذي وقع فيه الكثيرون في إدارة بيوتهم فهذا أمر يعترف به كل ضمير حي وهو في اشد الأسف وغاية الأسي، ولكن لا يوجد ما هو أشد إيلاما للضمائر أكثر من رؤية إنسان يبقى ساكتأ صامتاً وبيته على حال من الفوضى المستمرة، وما ذلك إلا لأنه يشعر بعجزه على إيجاد بيته في المستوى الذي يريده له الله وما كان عليه إلا أن يسير في الخطة التي رسمها الله في كلمته وسرعان ما تنصب البركات صبا عليه وعلى أهل بيته لأن الله لا يستطيع أن ينكر نفسه، ولكن إذا كنت بعدم إيمان أقول وأجزم في القول بأني لا أقدر أن أصل إلى هذه البركة فبالبداهة لا أستطيع ذلك لأن الله إذا سمح لنا بأن ندخل میدان بركة أو يمنحنا امتيازا فلا يكون ذلك إلا بعد أن تتدعم بسلاح الإيمان القلبی. ومثل ذلك مثل كنعان قديما، فكانت لشعب اسرائیل کمیراث وكنصيب ولكن كان عليهم أو أن يتحركوا من هنا إلى هناك ولهذا قيل كل مكان تدوسونه، وهذا كان وسيكون، فالإيمان يمتلك ما يعطيه الله، وينبغي لنا أن نضع نصب أعيننا فقط الأشياء التي تمجده لأنه جعلنا كلنا على صورته ومثاله ولكن أي شي اكثر إهانة لاسم الله من أن يكون بيت إنسان على عكس ما يريده الله له ولو حكمنا على حسب المظاهر التي تحت أنظارنا لما ابطأنا في الحكم على كثير من المسيحيين إنهم يعتقدون بأن بيوتهم ليس لها أدنى إرتباط أو أقل علاقة بأمر تأدية شهادتهم، فيا له من منظر مهين إذ يلتقي الإنسان بمؤمن تقي في سيرته الشخصية ولكنه مقصّر في إدارته لشئون بيته، فنرى في أقوال مثل هذا المؤمن شيئا كثيراً  بخصوص الانفصال عن العالم، ولكن بيته من جهة أخرى على أشر حالة من الحالات العالمية، ويصرّحون أيضا بأن العالم صلب لهم وهم للعالم ولكن على أهل بيوتهم قد انطبعت صورة العالم تمام الانطباع وكان كل شئ في بيوتهم قد رتب لكي يكون ملائما لشهوة الجسد ولشهوة العيون ولتعظم المعيشة، فما في بيوتهم غير المرايات الفاخرة لتظهر صورة الجسد الفاني وسجاجيد بديعة ومقاعد مريحة وثريات مضيئة للمفاخرة وللمباهاة، وقد يقول قائل بأنه ليس من ضرورة تفضي للدخول في مثل هذه التفصيلات الدقيقة، ولقد إحتجت مثل هذا الاحتجاج بنات صهيون عندما وجه لهن توبيخ صارم كهذا ( إش 3 : 18 – 23) "يَنْزِعُ السَّيِّدُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ زِينَةَ الْخَلاَخِيلِ وَالضَّفَائِرِ وَالأَهِلَّةِ،وَالْحَلَقِ وَالأَسَاوِرِ وَالْبَرَاقِعِ وَالْعَصَائِبِ وَالسَّلاَسِلِ وَالْمَنَاطِقِ وَحَنَاجِرِ الشَّمَّامَاتِ وَالأَحْرَازِ، وَالْخَوَاتِمِ وَخَزَائِمِ الأَنْفِ وَالثِّيَابِ الْمُزَخْرَفَةِ وَالْعُطْفِ وَالأَرْدِيَةِ وَالأَكْيَاسِ، وَالْمَرَائِي وَالْقُمْصَانِ وَالْعَمَائِمِ وَالأُزُرِ" الم يكن هذا من تفصیلات دقيقة ؟ ونفس هذا الأمر جليّ وواضح في الفقرة الأتية في عاموس (6 : 1-5)  "ويْلٌ لِلْمُسْتَرِيحِينَ فِي صِهْيَوْنَ، وَالْمُطْمَئِنِّينَ فِي جَبَلِ السَّامِرَةِ، نُقَبَاءِ أَوَّلِ الأُمَمِ. يَأْتِي إِلَيْهِمْ بَيْتُ إِسْرَائِيلَ. اُعْبُرُوا إِلَى كَلْنَةَ وَانْظُرُوا، وَاذْهَبُوا مِنْ هُنَاكَ إِلَى حَمَاةَ الْعَظِيمَةِ، ثُمَّ انْزِلُوا إِلَى جَتِّ الْفِلِسْطِينِيِّينَ. أَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ هذِهِ الْمَمَالِكِ، أَمْ تُخُمُهُمْ أَوْسَعُ مِنْ تُخُمِكُمْ؟ أَنْتُمُ الَّذِينَ تُبْعِدُونَ يَوْمَ الْبَلِيَّةِ وَتُقَرِّبُونَ مَقْعَدَ الظُّلْمِ، الْمُضْطَجِعُونَ عَلَى أَسِرَّةٍ مِنَ الْعَاجِ، وَالْمُتَمَدِّدُونَ عَلَى فُرُشِهِمْ، وَالآكِلُونَ خِرَافًا مِنَ الْغَنَمِ، وَعُجُولاً مِنْ وَسَطِ الصِّيَرةِ، الْهَاذِرُونَ مَعَ صَوْتِ الرَّبَابِ، الْمُخْتَرِعُونَ لأَنْفُسِهِمْ آلاَتِ الْغِنَاءِ كَدَاوُدَ،الشَّارِبُونَ مِنْ كُؤُوسِ الْخَمْرِ، وَالَّذِينَ يَدَّهِنُونَ بِأَفْضَلِ الأَدْهَانِ وَلاَ يَغْتَمُّونَ عَلَى انْسِحَاقِ يُوسُفَ.".
فروح الله يتنازل ويضع نصب عيوننا تفصيلات دقيقة إذا ما كانت هناك ضرورة لذلك، ولكن قد يقول البعض إننا ملزمون بتجهيز منازلنا طبقا لمراكزنا في الحياة , وكلما قدم هذا الاعتراض يدل دلالة واضحة على ما في نفس المعترض من رغبات وهذه الرغبة هي محبة العالم بلا مراء .
ولنسال ما معني مركز في الهيئة الاجتماعية لأناس يعترفون أنهم ماتوا عن العالم، فإذا ما تحدثنا عن مركزنا في الهيئة الاجتماعية يكون هذا معناه أننا ما زلنا عائشين في الجسد وفي الطبيعة القديمة، وبالتبعية قانون كلمة الله ينطبق علينا بشدة وصرامة لان الناموس له سلطان على الإنسان مادام حيا، ولهذا يكون مركزنا في الحياة منشأ لأخطار عظيمة .
ودعني أقدم سؤالا وهو كيف حصلنا على مركز في الحياة؟ وفي أي حياة هي؟
إذا كانت الحياة المقصودة هي هذه الحياة إذا نكون كاذبين كلما تحدثنا بأننا صلبنا مع المسيح، "أموات مع المسيح"، "دفنا مع المسيح" ، "قمنا مع المسيح"، "خارج المحلة مع المسيح"، "لسنا في الجسد"، "لسنا من العالم الفاني"، فكل هذه الادعاءات ما هي إلا أكاذيب منمقة للذين لهم مكانة في هذه الحياة أو يسعون لنيل تلك المكانة سعياً متواصلاً، وهذه هي حقيقة المسالة وجوهر هذه القضية، وما علينا إلا أن نسمح للحق أن يمس ضمائرنا ويفعل فعله في قلوبنا فيؤثر على سيرتنا، إذا ما هي الحياة الوحيدة التي يجب أن يكون لنا فيها مكانة ورتبة ومركز ؟ لا حياة إلا حياة القيامة مع المسيح, ومحبة المخلص قد منحت لنا مركزاً في هذه الحياة وليس في أي حياة أخرى، وبناء علي ذلك يجب أن نعلم بأن الأثاث الفاخر والثياب الأنيقة والمظاهر المضحكة والأبهة الكاذبة ليس لها دخل بهذه الحياة، فقداسة السيرة وحدها وطهارة العيشة والقوة الروحية والوداعة القلبية والابتعاد عن كل شي يشتم منه الميل للعالم أو الإنقياد للجسد وإعداد أنفسنا وبيوتنا بهذه الأشياء فقط معناه إعدادها حسب مكاننا في الحياة الجديدة المقدسة .
والحق يقال إن إعتراضا كهذا مما يظهر حقيقة المبدأ السائد على قلوبنا، ولقد قلنا سابقا إن حالة البيت تظهر حالة الإنسان الأدبية وهذا الاعتراض يؤيد هذه الحقيقة .
فكل من يتكلم أو يفتكر عن مركز في الحياة الحاضرة فكأنه قد رجع بقلبه الى مصر ثانية، وما يقوله الله يبين نهاية مثل هؤلاء "فَأَنْقُلُكُمْ إِلَى مَا وَرَاءَ بَابِلَ"، (أع 7 : 43) وإنه لأمر مخيف جدا أن مادون في أصحاح ۱۸ من سفر الرؤيا هو حقيقة نهاية المسيحية السقيمة -المزيفة الجوفاء - مسيحية الزمن الحاضر، ويمكن أن يقال بأن المسيحية لا تصادق على البيوت غير المرتبة وغير النظيفة وهذا حق غاية في الوضوح لأنه توجد أشياء قليلة تؤلم النفس وتحزن الفؤاد أكثر من رؤية بيت المؤمن ملوث بالأقذار ومشوه لعدم الترتيب، وأشياء مثل هذه لا يوافق عليها شخص روحي ولا تتفق مع ذوي العقول السليمة، وحيثما وجدت الأقذار والتشويشات في بيت فلابد وأن هناك أمرا خطيرا ذي بال حادثة في هذا البيت. ولهذا يكون بيت الله نموذجا مباركاً أمام عيوننا لنعمل على نسقه داخل بيوتنا.
ولا خلاف بأنه على القائمة العليا الباب هذا البيت المقدس قد نقش هذا القول الإلهي "وَلْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ بِلِيَاقَةٍ وَبِحَسَبِ تَرْتِيبٍ."  (1كو 14 : 40) فكل الذين يحبون الله وبيت الله يكون لهم رغبة صادقة في مراعاة هذا التعليم المقدس في كل شئ يتعلق ببيوتهم.
وإدارة أولادنا هي ثاني أمر تتضمنه عبارة "أنت واهل بيتك" ، وأمر كهذا ذكره يؤلم كثيرين منا لأنها تظهر عجزا فاضحا ظاهرا، لأن الحالة التي يوجد فيها الأولاد تدل دلالة واضحة عن الحالة التي عليها الوالدون، فالمقياس الحقيقي لاحتقاری للعالم ولإخضاعي للطبيعة يظهر ظهورا واضحا في أفكاري عن أولادي و كيفية إدارتهم، فربما شخصياً أكون من المعترفين بأنی نبذت العالم وراء ظهري وهذا حسن ولكن من الجهة الأخرى أن عندي أولادا - فهل نبذت العالم وراء ظهورهم أيضاً ؟ فيمكن أن البعض يجاوبون قائلين كيف يمكن لنا ذلك والحال أنهم مازالوا في الجسد وينبغي لهم أن يستعملوا العالم؟ وهنا حالة القلب الحقيقية الداخلية تظهر ظهورا واضحاً والعالم لم يُنبذ وراء ظهري بعد وأولادي ما هم إلا حجة قد اتخذتها لأعود فأمسك بما قد طرحته جانبا صوريا ولكنني قد أمسكت به في قلبي باستمرار، وهل فاتني بأن أولادی جزء من ذاتي، وإلا ليسوا هم كذلك في إعتباری ، الحق أولى أن ينال إنهم بالتحقيق جزء من شخصي وإلا فإذا أعلنت أمام الملأ بأني طرحت العالم جانبأ ومازلت أحلله لأولادي فما هذا إلا ازدواجا في الشخصية من الإنسان، فنصفه في مصر والنصف الآخر في کنعان، ومثل هذا الإنسان نعلم أين هو حقيقة وفعلا، ومما لاشك فيه أنه حقاً وفعلاً في مصر، وفي هذا الأمر أيها الأخوة يجب أن نمتحن أنفسنا فأبناؤنا وماهم عليه هم الدليل الكافي لكفاءتنا وعدم كفاءتنا في هذا الامتحان الخطير.
وإن الروح القدس لن يختار معلم الموسيقى أو معلم الرقص ليساعد أبناءنا على السير في طريق البر، وليست هذه هي الوسائل التي بها يكرمون المسيحية ذات المبادئ السامية التي دُعوا إليها، وهذه الأمور تؤيد أن المسيح ليس هو غرض قلوبنا وكفاية نفوسنا لأنه ما كان كافيا لنفسي كان فيه الكفاية لأولادي أيضا الذين هم جزء من نفسي، فيا لها من غلطة هائلة وانها لكذلك حقا؟ فلو كان أولادي مازالوا في مصر فأنا أيضا هناك في مصر، وإذا كان أبنائی ينعمون بالاً في بابل فأنا أيضا أنعم بالاً في بابل، وإذا كان أولادي يتبعون نظاماً دينيا فاسدا فإني إتبعه بنفسي بالتبعية,  فأنت وأهل بيتك كتلة واحدة، وأن الله نفسه قد عملهم واحدة وما جمعه الله لا يفرقه إنسان .
هذه الحقائق الراهنة نرى من خلالها سوء مصير أبنائنا إذا أرغمناهم على السير في طريق قد ودعناها نهائيا وراء ظهورنا، وهذه الطريق من المحتم أن تؤدي بهم إلى البحيرة المتقدة بالنار والكبريت، وبينما نعوّل كثيرا على العلوم والآداب العالمية وأمجاد الدنيا وثروتها وملاذها وألقابها وما بقي من أوحالها وفضلاتها وأشياء كهذه قد اعترفنا علنا بأنها من المعطلات لنا في عيشتنا المسيحية وما تأخرنا لحظة في طرحها جانبا، ومع هذا كله نضع هذه الأشياء نصب أعين أبنائنا كأنها لازمة لنجاحهم، وبهذا العمل نجهل أو نتجاهل أن ما يعطلنا في طريق الإيمان لا يكون أبدأ من وسائل المساعدة لأبنائنا[5].
وكم كان الأولى بنا أن نرمي القناع من على وجوهنا ونصرح جهاراً بأننا لم ننبذ العالم أصلا، وما من دليل يؤيد ذلك تمام التأييد إلا الحالة التي يسير عليها أبناؤنا، وإني واثق تمام الوثوق بان الرب بدينونته العادلة يضع عائلات الإخوة كنماذج لیری العالم في وسطها الحالة الحقيقية لتأدية الشهادة بيننا نحن المؤمنين في الآونة الأخيرة، ومع الأسف الكبير كثيرا ما نرى أن أبناء المسيحيين هم أكثر الأبناء عصيانا وأسوأهم سلوكا بين أبناء جيرانهم، فهل يجب أن هذا الحال يكون على هذا المنوال؟ وهل يقبل الله شهادة على يدى أناس يريدون تأدية الشهادة بتلك الصورة المعيبة؟  وهل تكون الشهادة كذلك فيما لو كنا سالكين بأمانة أمام الله فيما يختص بأهل بيوتنا وبلا خلاف يكون الجواب سلباً ، لأنه إذا سمحت للمبدأ ( أنت واهل بيتك ) أن يلتصق بضميری ويعمل عمله في عقلى لينيره سأرى أنه من واجبي أن أتكل على الله في هذا الخصوص وأطلب المعونة منه بمقدار ما أتكل عليه وأدعوه فيما يختص بتأدية الشهادة منه شخصياً، لأن الحقيقة ونفس الواقع لايمكن فصلهما عن بعضهما .
وإذا حاولت فصلهما عن بعضهما فهذا من المستحيل تحقيقه، وكم تألمت ضمائرنا إذ نسمع كلمات تردد قائلة إن هذا الأخ أخ محبوب وتقي وخادم أمين ولكن للأسف فله من الأبناء أشر وأفظع الأولاد الموجودين في كل الحي وبيته ما هو إلا خليط من سوء النظام والفوضی .
ولأسال سؤالا : ماهي قيمة شهادة إنسان كهذا عند الله، ما أقل قيمتها حقاً؟ قد يكون من المخلّصين ولكن هل الخلاص كل ما نحتاجه ؟ ألا نحتاج إلى تأدية الشهادة؟ وإن كنا ملزمين بذلك طبعاً فأی شهادة ياتری؟ وأين تظهر هذه الشهادة أولاً ؟ هل تنحصر هذه الشهادة في وجودنا على تخت جلوس الاجتماع أو ترى في وسط أفراد أهل بيت الإنسان ؟ فهل للقلب أن يجاوب علي هذا السؤال بكل إخلاص؟ .
وما أكثر قول الآباء إن أبناءنا يشتهون قليلاً من ملذات العالم ونحن لا يسعنا إلا الاستسلام لرغائبهم لأننا لا يمكننا أن نضع رؤوساً كبيرا على أكتاف صغيرة, فجوابنا على ذلك أننا كثيرة ما نشتهي قليلا من العالم وملذاته مثلهم، فهل نستسلم لمثل هذه الشهوات؟ فالجواب على الفور كلا . يلزم أن نحكم على مثل هذه الشهوات ونتحرر منها وهذا هو الصواب، وكان الأولى بنا أن نعمل ذلك مع شهوات أبنائنا، ومعنى ذلك أني إذا رأيت أبنائي يتوقون إلى العالم ينبغي أن أجثو أمام الله طالبا معونة حتى أردهم إلى مركز الطاعة للرب وبذلك لا تتعطل الشهادة، و لا يسعني إلا الاعتقاد بأنه إذا كان قلب الوالد متطهرا بتمامه من العالم ومن مبادئ العالم وشهواته فإن هذا يؤثر تأثيرا كبيرا على أفراد بيته، وهذا ما يجعل المسألة بتمامها ذات أهمية كبرى عملية ومنها أفهم ما إذا كان حال بيتي يصلح أن يكون مقياسا لمعرفة حالتي الحقيقية أم لا ولا خلاف إن تعليم الكتاب المقدس يجاوب علي هذا السؤال بالإيجاب وجوابا كهذا يزيد المسألة خطورة، كيف أنا سائر أمام أفراد بیتی؟ فهل سيرتي لا شبهة عليها أصلا حتى أن جميع أفراد أهل بیتی يرون أن غرض قلبي الأوحد هو شخص الرب يسوع، ولكن إذا كنت أربی أولادي للعالم أو أقودهم نحوه بأي شكل فكأني قد قصدت بذلك أن أفتح أبواب جهنم على مصراعيها أمامهم .
وإني أشعر أن مثل هذه المناقشات تزعج ضمائرنا إلا أننا ملزمون أننا نتبعها إلى النهاية، وإلا خبروني ما الذي أوجد في كثير من الأوقات مابين أبناء المؤمنين من نجاسة مريعة، من استهزاء بالأمور المقدسة، من فقدان شهية المطالعة في الكتاب المقدس وعدم الرغبة في حضور الاجتماعات الدينية، من روح العناد وعدم الطاعة وهل يجسر أحد بعد ذلك أن يقول إن الآباء لا مسئولية عليهم إزاء هذا أمام دينونة الله العادلة ؟ ألا يرجع ذلك على الوجه الأغلب الى الخلاف الكبير الموجود بين إعتراف الآباء الظاهري وسيرتهم العملية ؟ إني على يقين من ذلك فالأولاد جبلوا على حدة الملاحظة والاستنتاج لأنهم سرعان ما يكتشفون حقيقة حال والديهم، وهذه الاستنتاجات يلتقطها الأبناء لا من صلوات أبائهم وأقوالهم بل من أعمالهم وأفعالهم. فقد يعلم الآباء أبناءهم بأن العالم شرير وطريق العالم محفوف بالمكاره، وقد يصلى الآباء من أجل أولادهم ليهتدوا إلى معرفة الرب، ولكن يربون أبناءهم للعالم ويسعون سعيا متواصلا وبإلحاح في زجهم إلى ميدانه الفسيح وفي الإمساك به بكل قواهم وفي الدخول فيه من كل الأبواب الممكنة، وإذا نجح أباؤهم بعض النجاح في هذا المسلك وفي تلك الخطة التي يرسمونها لأنفسهم فيما يختص بتربية أبنائهم يعودون ويهنئون أنفسهم على نجاح وفقوا إليه بعد سعي كبير وجهد متواصل، ففي هذا المقام لا يسع الأبناء إلا أن يقولوا في أنفسهم إن العالم مكان تحلو فيه الإقامة ويطيب فيه العيش ويهنأ فيه القلب ويهدأ فيه الخاطر، ودليلهم على ذلك أن آباءهم يشكرون الله على توفيقهم في إيجاد منصب لأبنائهم من مناصبه العالية ورتبة من مراتبه السامية، وإذا ما أفلحوا اعتبروا أن هذا علامة رضي من العناية الإلهية، فإذا ما تلا المؤمن على لسانه هذه العبارات التالية "متنا عن العالم" ، "قمنا مع المسيح" ، "إن العالم تحت دينونة غضب الله الرهيب" "غربا، ونزلاء فيه"، فما تكون هذه التلاوة إلا كلاما في كلام لا يفقه له معنى، وبالتبعية من يدعون أنفسهم مؤمنين يستحقون بالأولى أن يعتبروا خادعين مخدوعين .
وهل يتجاسر أحد بالتصريح أن مثل هذا الإعتقاد لم يجل بخاطر كثير من أبناء المؤمنين المتهاونين، أما من جهتي فلا أشك في هذا الأمر، ولا خلاف أن نعمة الله تسمو على أغلاطنا وتتغلب على تقصيراتنا وتستر جميع عيوبنا، ولكن ألا تفكر في تأدية الشهادة ؟ فإذا ما فكرنا ولو قليلا في هذا الأمر لأدرنا بيوتنا إدارة حكيمة لله وليس للشيطان[6]
وقد يحتج أحد المؤمنين قائلا وكيف يعيش أبناؤنا - ألا يلزمهم أن يحصلوا على معاشهم؟ فمما لانزاع فيه أن الله حكم على الانسان أن يأكل خبزأ بعرق الجبين، وأن يخلق لي يدين معناه أنه لا يريدني كسولاً فضوليًا متطفلاً على الغير، ولكن مهما كان الحال فلا يدعوني هذا أن أعيد أبنائي إلى العالم الذي أدرت ظهري له وطرحته جانباً طلباً في إيجاد مرتزق لهم ، فإن الله القدير مالك السموات والأرض كان له ابن وحيد كان هو وارث لكل شئ وبه قد عمل كل العالمين، هذا لم يتخذ لنفسه أي مهنة عالية بل كان عاملا في حرفة النجارة، أليس لهذا الخبر تأثير على قلوبنا إذ أن المسيح صعد إلى الأعالي وجلس عن يمين الله، وبما أنه قد قام فهو رئيسنا وقائدنا وقدوتنا، فلقد ترك لنا مثالا لكي نتبع خطواته فهل نحن نكون متتبعين تلك الخطوات واحدة فواحدة إذا ما زجينا بأولادنا إلى العالم ، العالم الذي صلبه . فإذا ما عملنا ذلك لا نكون متتبعين خطوات السيد المسيح بحال من الأحوال ونكون قد وضعنا لأنفسنا خطة معاكسة تماما لإرادته، ولابد أن نتوقع نتيجة تلائم مثل هذه المقدمات " لاَ تَضِلُّوا! اَللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا" ، (غل 6: ۷) فما نزرعه فيما يختص بأبنائنا إياه نحصد، فلو زرعنا للجسد وللعالم لا يمكن أن ننتظر أن نحصد خلاف ذلك.
ولكن لا يُفهم من قولي هذا بأني أريد أن أقرر بأن ما على المؤمن إلا أن يضع أبناءه في مستوى أقل من المستوى الذي عيَّنه الله لهم، ولا أعتقد أن المؤمن قد طُلب منه أن يعمل ذلك، بل ما أريد أن أقرره هو أنه إذا كانت دعوتی سماوية فينبغي أن تكون دعوة ابني كذلك لأنها كما وافقتني شخصيا فلابد وأنها توافقه ولا جدال في أن الكل لا يمكنهم أن يكونوا نجارين ولكن في عصرنا الحالي - عصر التقدم والارتقاء . حيث الكل قد اتخذ لنفسه شعاراً وهو التقدم إلى الأمام وإلى الأعلى بأي ثمن كان وبأي الوسائل ومهما كانت النتائج ففي عصر كهذا لابد من تأثير أدبي كبير على قلب كل مؤمن إذ يعلم هذه الحقيقة الراهنة أن ابن الله الوحيد حامل كل الأشياء بكلمة قدرته موجود وحافظ الكون بأسره عُرف بين الناس بصنعة يديه كالنجار، وخبر كهذا ألا يُعلّم المسيحيين فيما بعد ألا يهتموا لأبنائهم بالأمور العالية بل أن يكونوا منقادين للمتضعين ؟.
وماذا جرى؟ إننا كثيرا ما عطلنا الشهادة لأن خيبتنا لم تكن قاصرة على إختيار الأسلوب الذي سرنا عليه في تربية أولادنا، ولكن تعدى الأمر إلى التهاون في إخضاعهم للسلطة الأبوية، وفي هذا الخصوص قد ظهر القصور واضحاً فاضحاً بين الأباء المسيحيين لأن الروح السائدة بين أبناء الجيل الحاضر هي روح عدم الطاعة، فمن مظاهر الأيام الأخيرة مظهر الأبناء في عدم الإذعان لوالديهم، ولقد ساعدنا بسلوكنا نحن في إتساع دائرة هذا العصيان بأن فهمنا مبدأ النعمة فهما معكوسا، لأنه فاتنا أن نتحقق من أن السلطة الأبوية تتضمن إستخدام النفوذ داخل حدود البر والقداسة، ولو أهملنا ذلك لأصبحت بيوتنا خليطا من الفوضى وسوء النظام وإلا فهل من تعاليم النعمة أننا نشجع ظهور الرغائب غير المقدسة في بيوتنا.
وكثيرا ما نظهر حزنا وأسفاً إذا ما رأينا أنه يعوزنا إرادة مخضعة لمشيئة الله ومع ذلك نعمل في تقوية إرادة مثل هذه في أبنائنا .
وفي اعتقادي الراسخ أنه إذا ما أراد أب أن يأمر إبنه فيخاطبه قائلا هل تعمل كذا وكذا فمثل هذا الأسلوب برهان جلى على ضعف السلطة الأبوية، ودليل ساطع علي جهل مطبق بالطريقة المثلى التي يجب بها أن يدير بيته كخادم لله، وسؤال كهذا يوجهه الوالد لابنه مما يؤدى بطريق مباشر لإيجاد روح العناد في الطفل، وأمر كهذا يجب أن توجه كل قواك لمقاومته إذا ما ظهرت بوادره في أبنائك، فبدلا من أن تسأل هل يعمل كذا وكذا ينبغي لك أن تحدد له ما تريده منه أن يعمل لكي لا توجد مجالا لفكره أن يجعل سلطانك ونفوذك موضوع فحص ومناقشة، ولماذا هذا؟ السبب ان الوالد إزاء الطفل نائب عن الله ولذلك يجب أن تكون إرادته سائدة على إرادة الطفل في كل المواقف، فكل سلطان من الله، وهو قد منح خادمه هذا السلطان عینه سواء أشغل مركز والد أو سيد حتى إذا ما اظهر الولد تمرداً أو الخادم مقاومة ضد هذا السلطان الممنوح له من الله فكأنه موجه إلى الله نفسه[7] .
وقد يقول البعض أن الرسول بقوله هذا يقصد الأبناء المؤمنين، وعلى هذا أجاوب انه لا يوجد في هذه الفقرة كلمة عن الإيمان والمؤمنين فلم يرد القول ربوا أولادكم المؤمنين فلو جاء القول بهذه الصورة لانحلت المشكلة بتمامها، ولكن قيل فقط أولادكم ومعنى هذا كل الأولاد مؤمنين كانوا أو غير مؤمنين.
فاذا ما أردت أن أربي أبنائي في خوف الرب وانذاره فمتي ابتدئ؟ هل أصبر عليهم حتى يصلوا إلى سن الرجال والنساء، أم من الواجب علىّ أن أبتدئ معهم حيث يبتدئ كل عاقل أي في الحداثة؟ وإلا هل أسمح لهم بأن يسيروا في جهالة الصبا وفي طياشة الحداثة في أهم مرحلة من حياتهم بدون أن أسعى أصلا في استحضارهم في حضرة الله لتنبيه ضمائرهم عن مسئولياتهم الخطيرة، وهل يسوغ لى بصفتى والدهم أن أدعهم في عدم مبالاتهم وعدم تفكيرهم يصرفون مدة من عمرهم منها حياتهم المستقبلة تتغذى؟
إن عملنا هذا مع أبنائنا تكون القسوة بأكمل معانيها، وإلا ماذا نقول عن بستانی إذا ما ترك أشجاره وأغصانها ملتوية وفروعها معوجة قبل أن يفكر في تقليمها في الأوان المناسب؟ لا خلاف بأننا نحكم عليه بالغباوة والحماقة المتناهية، و غباوة مثل هذا لا تقارن بغباوة والد يؤجل تأديب أولاده في خوف الرب وإنذاره بعد أن يخطو خطوات واسعة في خوف العدو وإنذاره .
وقد يقول البعض يجب أن ننتظر ظهور علامات الولادة الجديدة، ولمثل هؤلاء أقول أن الإيمان لا ينتظر قط لعلامات أو ظهور أمارات، ولكن يبتدئ يعمل حسب كلمة الله والعلامات لابد من ظهورها، ومن علامات عدم الثقة أن ننتظر ظهور علامات في وقت يلقى الله علينا أمراً ، فلو كان شعب إسرائيل انتظر علامات عندما أمرهم الله بالخروج لكان هذا عصياناً علنياً ، ولو كان الرجل ذو اليد اليابسة انتظر لظهور علامات عندما أمره الرب يسوع بأن يمد يده لكانت النتيجة أنه ذهب للقبر بيده يابسة، وهكذا الحال مع الآباء فإذا ما انتظروا ظهور علامات حتي ينفذوا ما جاء برسالة أفسس بخصوص تربية أبنائهم في خوف الرب وإنذاره فهذا السلوك ينبئ أنهم سائرون بالعيان لا بالإيمان في هذا الصدد، وإن كنا نبدأ في تربية أبنائنا وهم أحداث وهذا فرض واجب علينا وهم في سن لا تظهر فيه علامات التغيير أو أمارات الولادة من الله، وفي هذا الأمر كما في غيره يجب أن نذعن لأمر الرب ونترك النتيجة لعمل الله .
فقد يكون أمر الله لنا امتحانا لحالة نفوسنا الأدبية وما نحن فیه من درجة روحية , ولكن مادامت نيتنا معقودة على الطاعة فإن قوة الله تصحب الأمر وثمر الطاعة لابد من ظهوره، لأننا سنحصد في الأوان إن كنا لانكّل.
لقد ظهرت خيبتنا ظهوراً واضحاً في إدارة بيوتنا، وما ذلك إلا لأننا نسينا القانون المقدس الذي وضعه الله أمامنا، ولقد كان لنا قدوة في طريقة تنفيذ هذا القانون، وإنی آمل أن القارئ العزيز لايخلط بين مبدأ سياسة الله في حكمه وبين أخلاقه وأوصافه [8].
إن الأمرين مختلفان عن بعضهما اختلافا بيّناً، فالأول هو البر، والثاني هو النعمة , ولكن ما اريد تقريره هنا أن في رابطة الوالد بأولاده والسيد بخدمه يبدو مبدأ البر جليا واضحا، وإذا لم يراع هذا المبدأ مراعاة تامة في إدارة بيوتنا لابد من حدوث تشويش في وسط عائلاتنا، فمثلا لو شاهدت صبياً أجنبياً عني يرتكب خطأ فليس ليّ سلطان إلهي أن أطبق عليه القوانين التأديبية العادلة، ولكن اذا ما ابصرت ابني يسير شططاً فلى الحق في تأديبه، والسبب في ذلك أني والده. ولكن قد يقول قائل بأن الرابطة الأبوية هي رابطة محبة - وحقا إنها قائمة على المحبة "انظروا اية محبة أعطانا الاب حتي ندعي أولاد الله" ، (يو 3 : 1) - ولكن ولو أن الرابطة مؤسسة على المحبة ولكن ممارستها تكون بالبر، لأنه قد أتي الوقت ليكون ابتداء القضاء من بیت الله، وأيضاً  نتعلم من عبرانين ۱۲ اننا إذ قد صرنا بنين حقيقيين فإن هذا يضعنا تحت تأديبات يد الله الأب. وكلما غابت عن نظر الآباء المسيحيين هذه الحقيقة الراهنة كلما وجد سوء النظام والتشويش بين أهل بيوتهم، فهم إذ لم يحكموا أبناءهم يأتي وقت يحكمهم فيه أبناؤهم ويسيروهم حسب مرامهم، لأنه من الضروري وجود قوة حاكمة في أي هيئة من الهيئات أو جماعة من الجماعات .
وإذا كان زمام السلطة قد تخلى عنه الذين قد اعطوا إياه فلابد من وقوعه في أیدی غاشمة غير مدربة، وهل يوجد منظر في الحياة أشد إيلاما للنفس أكثر من رؤية الأباء يحكمهم ويسيّرهم الأبناء؟ وإني أقول بملء الصراحة في حضرة الله إنها وصمة عار كبرى لا تنتج إلا دينونة الله العادلة، فوالد يُسلّم باختياره زمام القيادة ودفة الحكم يكون قد أثبت خيبته في مركزه السامي المقدس کوکيل ونائب عن الله وكمنفذ لأوامره ، وإذا ما خسر والد مركزه بهذه الصورة فلا يمكن أن يستعيد مكانته بحال، ولا يقدر أن يكون شاهدا أميناً لله في عصره وجيله، وقد يكون مثل هذا الإنسان من المشمولين بنعمة الله، ولكن كونه من رعايا النعمة وشاهدا لله شيئان مختلفان كل الاختلاف، وعدم ادراك هذا الأمر الخطير كان سببا في الحالة المحزنة لإخوة كثيرين، وكانت خيبتهم في إدارة بيوتهم خيبة تامة، ولذلك قد خسروا مركزهم الحقيقي ونفوذهم الأدبي، وتفككت قواهم، وسدت أفواههم، وتعطلت شهادتهم، واذا ما تجاسر أحدهم في رفع صوته وهو في حالة الضعف هذه تجد الأيادي تشير في الحال إلى عائلاتهم، وهذا مما يجلب الخجل على وجوههم والوخز في ضمائرهم.
والناس لا ينظرون إلى هذا الأمر دائما من وجهته الحقيقية، وتنسب الخيبة الى أسبابها الحقيقية، بل كثير من الناس ينظرون الى هذا الأمر كأنه أمر طبيعي ولازم أن أبناءهم يجب أن يصيروا عالميين وعنيدين، وهم يزعمون بأن الأمور تسير حسب المرام إذا ما كان الأبناء صغاراً ولكن اذا ما كبروا يكون من الضروري أن يدخلوا العالم.
والآن أسال سؤالا هل هي إرادة الله أن أبناء المؤمنين بشبون عنيدين وعالميين ؟ هذا الأمر إن قاله البعض لا أصدقه بحال من الأحوال، ولكن إن لم يكن هذا هر فكر الله من - جهة أبناء المؤمنين، وإذا كان الله قد فتح لأهل بيتي قلبه كما فتحه لنفسي، وإذا كان قد سمح لي أن أختار لأولادي نصيبا كما اختار لنفسي بحسب نعمته الغنية، وإذا ماعاش أولادي بعد هذا عالميين عنيدین، ماذا أستنتج من هذا ؟ لابد أنني أخطأت خطأ فاحشا وقصرت تقصيراً  هائلاً في علاقاتی ومسئولياتي الأبوية، هذا مما جعلني اخطئ المرمی في تربية أولادي فأهنت الله، وكأني أقصد من مسلکي هذا أن أضع قانوناً للآخرين بأن أولاد المسيحيين ينبغي أن يسلكوا كما يسلك أبنائي، وهل بعد خيبتي في هذا الأمر الخطير أضع عجزی كقدوة للآخرين بدلا من أن يرتكنوا على أمانة الله وقدرته في هذا الصدد؟ ألسنا إن كنا نفعل ذلك فكأننا نتتبع خطوات النبي الشيخ في بيت إيل، ذلك النبي الذي إذ رأى نفسه في وسط الشر سعى في جذب أخيه أيضاً، فكانت النتيجة أنه عصى الله فافترسه أسد ؟
ولكن خلاصة المسألة هي أن عناد أبنائي يُظهر عناد قلبي، ولكن الله البار يستخدمهم لتأديبي، لأني لم أحكم على نفسي وهذا أمر خطير جدا وهذا مما يدعونی الفحص ضميري فحصا دقيقة
ويظهر أنه إذا أردت ان أوفر على نفسي تعباً تركت الحبل على الغارب في وسط أهل بيتي، وقد شبّ أبنائی كأشواك في جنبی، لأني لم أربهم لله، وهذا هو تاريخ الآلاف منا، ومن أوجب الواجبات أن نضع في بالنا بأن أبناءنا وأنفسنا موضوعون للدفاع عن الإنجيل وتثبيته أمام الناس.
وكم تتحسن طريقة حكم بيوتنا إذا ما اعتبرنا أن أهل بيوتنا موضوعون لأداء الشهادة لله أمام العالم، فيجب علينا أن نسعي للمحافظة على النظام لا لكي نتخلص من تعب أو معاكسة، ولكن بالأولى جداً حتى لا تتعطل الشهادة بالتشويش في عائلاتنا, ولكن دعنا نعلم علم اليقين بأن إخضاع الجسد في أبنائنا يستلزم إخضاعه في أنفسنا أولا، ولكن مما لا خلاف فيه انه لن يمكننا أن نخضع الجسد بالجسد، ومتي أخضعنا الجسد في ذواتنا يمكننا أن نخضع الجسد في أبنائنا، وفضلا عن ذلك يلزم أن يكون هناك تضامن واتحاد تام ما بين الاب والام فكلمتهم وإرادتهم وسلطانهم ونفوذهم يجب أن يكون واحدا لا يتجزأ بكل معنى الكلمة، ولأنهما الإثنين جسد واحد يجب أن يظهرا دائماً أمام أبنائهم في جمال وقوة تلك الوحدة، ولهذا الأمر يجب أن يتكلا على الله في ذلك كل الاتكال، وما ذلك إلا بالجلوس كثيرا في حضرة الله بقلوب منسكبة ومقدمة كل احتياجاتهم. وكثيرا ما يضر المسيحيون بعضهم بعضا في هذا الخصوص، وقد يحدث أن أحد الزوجين يريد أن يطرح العالم جانباً وأن يُخضع الجسد، وهذا أمر ربما لا يكون موافقاً لنظر الآخر فينشأ عن هذا خلاف يؤدي لنتائج محزنة للقلوب ومفتنة للأكباد . فعن نتائج الخلاف بين الزوجين أحيانا الخلط والعداء المستحكم وتضارب الآراء حتى أنه لا يمكن أن يقال عنهما إنها واحد في المسيح، وتأثير كل هذا على أخلاق الأطفال يتخطى كل حد، ويفوق كل تصور، والنتائج التي تأتي من تشويش نظام البيت بتمامه لا حصر لها ولاعدد، فما يأمر به الوالد تنهی عنه الوالدة، وما يبنيه الوالد تهدمه الوالدة، وليس ببعيد . أحيانأ . أن الوالدة تصور للأولاد أن والدهم فظ وغليظ الطبع وجائر ومستبد في أحكامه، فالنفوذ الأموي يعمل عمله ليهدم النفوذ الأبوي حتى يأتي وقت فيه يكون النفوذ الأبوي في أشد الأخطار وعرضة للملاشاة، وتتمثل في الأسرة أبشع هيئة فاسدة ومجموعة غير منظمة [9]
إنه لأمر مريع، لأن الأطفال لا يمكن تربيتهم جيدا تحت ظروف كهذه، وأما الشهادة للمسيح فمجرد تصورها أمر مرعب، وحيثما ظهرت هذه الحالة بمظاهرها لاستوجبت أشد حالات الحزن القلبي بسبب ذلك، فرحمته لا تنفذ وحنانه لا يخيب ولنا ثقة في أنه اذا ما أظهرنا اعترافا وندامة حقيقية فيأتي الله بالشفاء والتجديد.
وإنه لأمر محقق لابد منه أنه اذا ما ظهر هذا الأمر بين أهل بيوتنا لا يجب ان نرضی به، بل يجب أن نصرخ للرب ليلا ونهارا، وهو لأجل اسمه وحقه اللذين أهينا بسبب هذه الأشياء، سيسمع مؤكدأ ويجاوب، ولننظر كل شئ في نور الشهادة لابن الله ولإيضاح ذلك نحتاج إلى بعض البيان، فما تركنا هنا إلا لنؤدی شهادة للمسيح ولتربية العائلات لله ومع الله وبالله وأمام الله ولكي نتمكن لعمل ذلك يجب أن نمكث كثيرا في حضرته، فالوالد المسيحي يجب ألا يعاقب ابنه لمجرد أهوائه ورغائبه بل يلزم أن يمثل الله في وسط أسرته وإذا ما تقرر هذا الحق في أذهان الوالدين، يصبح كل شئ في ترتيب، فهو وكيل الله أيضا، ولكي يقوم بوظيفته بهمة ونشاط يلزم أن يكون له علاقة مستمرة مع سيده ويجب أن يكون عند قدمی سيده ليعلم ماذا يجب عليه أن يعمل وكيف يعمله وهذا ما يجعل كل شئ سهلا وميسوراً، وكثيرا ما يشتاق قلب رئيس الأسرة لإيجاد قانون صالح لكل الأحوال في إدارة شئون العائلة .
وقد يسال سائل، أي نوع من العقوبات وأي صنف من المكافآت وأي ضرب من ضروب التسليات يجب على الوالد المسيحي ان يقيم وسط أهل بيته، وإني متيقن أن العقاب الفعلي لا ضرورة له اذا ما اتبعنا المبدأ الإلهي في إدارة منازلنا من الوقت المناسب واما من جهة المكافآت فأري أنه من المناسب اقتصارها على مهارات الحب والمديح، فالطفل ينبغي أن يكون، مطيعأ - مطيعا طاعة كاملة، طاعة بلا تردد أو تساؤل، فلا تكون طاعته قائمة على الحصول على مكافأة، الأمر الذي ينشئ في الطفل غروراً وهذا ثمر من ثمار الجسد ولكن هذا لا يمنع الوالد من أن يعبر عن رضاه بتقديم هدية صغيرة لابنه أما من جهة التسليات، فمتى كان ممكنا، ينبغي أن تكون في شكل مشغولية نافعة وهذا أمر نافع جدا من كل وجه، وليس من المناسب تعويد الطفل بالارتكان على لعبة فقط كأنها منشأ سروره وراحته.
ومع صغار الأطفال وجدت بالاختبار أن مشغوليتهم بعصا صغيرة أو قطعة ورق أنشأت فيهم سرورا اكثر من اي لعبة جاهزة مصنوعة، واخيرا دعنا نلتفت للمسيح سواء كان في عقاب أو ثواب او تسلية، وليكن شغلنا الشاغل اخضاع الجسد، وبذلك تكون بيوتنا شهادة لله وكل من بها يشعر بوجود الله ولا يسعه إلا أن يقول إن الله هنا .
وأما إدارة الخدم في البيوت المسيحية فهو على هذا المبدأ عينه. وبما أن رب الدار هو رئيس البيت وهو الممثل لقوة الله، لذلك يلزم أن يصمم على الخضوع والطاعة وليس هذا الأمر خاصة بمسيحية الخدم ولكن فقط بالنظام الذي يجب وجوده في العائلة المسيحية وهنا أيضأ يجب أن نحترس من استخدام تهورنا في اخضاع الخدم ولا يفوتنا أن لنا سيدا في السماء الذي علمنا أن نعطي خدمنا ما هو عادل وحق وإذا وضعنا الله أمام عيوننا يوما فقيوما وسعينا لإظهاره في كل أعمالنا مع خدمنا، يجب أن تحفظ من كل خطأ من كل وجه، وختام الأمر كله أقول إني لم أكتب لأجرح ضمير أي انسان، فقط إني أشعر بخطورة وأهمية هذه النقط التي أبديتها في هذه الرسالة وإني أشعر بعدم كفاءتي لإظهارها كما يجب أن تظهر بكل وضوح وجلاء ومع ذلك أطلب إلى الله أن يجعلها مقبولة ومفهومه لدي القراء الأعزاء، ومتي عمل فينا فأحقر الأواني ستقوم بالواجب وفي يده استودع هذه الصحائف التي أعتقد أني بدأتها وواظبت فيها وانهيتها في حضرة الله المقدسة، ولم أتردد في القيام بهذه الخدمة لأنه حالما فكرت فيها قد اجتمع عدد من الأخوة المحبوبين، المعروف عنهم بأن لهم علاقة وصلة ورابطة وعشرة مع ابن الله في هذه الأيام الأخيرة، للتذلل والاعتراف، وإني لا أشك أن عدم الاعتراف بالتقصير هو سبب عدم إصلاح أخطائنا
وإني واثق بأن هذه الصفحات ستوجد شعورا عميقاً بالتقصير في هذا الصدد ولابد من وجود رغبة صادقة لإصلاح هذا الخطأ.
وليت الرب يعطينا نعمة نحن المؤمنين لكي توجد في قلوبنا رغبة صادقة لكي نكون على أهبة الاستعداد لقدوم عريسنا المحبوب السماوي .








[1] ملحوظة للمؤلف : إني واثق تمام الوثوق بأن القاري لا يسيئ فهم قصدي ، وبكل وضوح أقرر وأنادی بضرورة عمل الروح القدس بالكلمة في تجديد أبناء المسيحيين ولابد من أن يولد الإنسان بالماء أي بكلمة الله والروح حتى يتسنى له أن يرى ملكوت الله ، وقد أكد السيد له المجد أنه ما لم يولد الإنسان من فوق لن يری ملكوت الله وهذا الأمر يسري على إبن المسيح كما على إبن أي واحد آخر، فنعمة الله ليست بالأمر الوراثي، وما أريد تأكيده للوالدين المسيحيين هو أن الوحي يقيم اتحاداً بين الرجل وبيته، اتحادا لا انفكاك له وأن الوالد المسيحي مسؤول ليعطي حسابا عن أبنائه وعن تربيتهم في خوف الله ، وكل من ينكر هنا التفسير وذاك الشرح عليه الرجوع إلى ما جاء في "أفسس 6 : 4 "
[2] من المحتمل أن يقال أنه لا يوجد أي تشابه مابين انتقال شعب من بلد لآخر وبين تربية الأبناء، فجوابا على ذلك أقول إن القياس ووجه الشبه ينطبق فقط على المبدأ ، لأنه من الواضح الجلى أنه لا يتسنى لنا بقدرتنا الشخصية أن نوصل أولادنا للسماء بالمعنى الذي به أخذ الإسرائيليون أبناءهم إلى كنعان، فالله وحده يمكنه أن يؤهل أبناءنا للسماء بأن يغرس فيهم حياة ابنه ، وهو وحده يقدر أن يحضرهم للسماء ومع أننا لا نقدر أن نأتي بفتياتنا للسماء إلا أنه بالإيمان يتسنى لنا أن ندربهم لها وليس من واجبنا فقط أن نعمل ذلك ولكن هذا من أسمي وأقدس امتیازاتنا، وبناء عليه إذا كان المبدأ الذي تربى عليه أبناءنا دنيوياً والغرض الذي نضعه نصب أعيننا عالمياً ، فمعنى ذلك أننا تركناهم في العالم وراء ظهورنا. ومن جهة أخرى إذا كنا نربي أولادنا على مبادئ سماوية واغراض مقدسة فيكون ذلك برهانا جليا على أننا نجهزهم للسماء، وهذه هي خلاصة نبذتنا أيها القارئ العزيز ، فإما أن تترك أبناءك خلفك في مصر أو تصعد بهم إلى كنعان، فنحن مطالبون بتربية أبنائنا ولو أنه ليس في مقدورنا تجديدهم ومن المحقق أن الله يبارك مجهوداتنا الأمينة في تربية الذين وهبهم الله لنا بکرم وسخاء .
[3] لا أتردد لحظة في إثبات انه من الخطأ الفاحش أن يترك الوالد المسيحي أمر تربية أبنائه لأشخاص غير متجددين أو حتى لأشخاص قلوبهم غير متفقة مع قلبه فيما يختص بالانفصال عن العالم وأنه لأمر طبیعی أن الطفل يقلد مربيه ومرشده ويقتدى به، وحقاً لا يستطيع معلم كهذا أن يعمل لتلميذه أكثر مما يعمله لنفسه، وان يقوده إلا حيث هو بنفسه ؟ وأي المبادئ يغرسها فيه سوى مبادئ تملا عقله وعليها تتأسس أخلاقه، فلو رأيت مثلا إنسانا ينقاد بمبادئ عالمية وإذا شاهدت بجلاء من سيرته وأخلاقه أنه شخص غير متجدد فهل يجوز لي فيما بعد أن أوكل إليه أمر تربية أولادي وتهذيب أخلاقهم ؟ لو حدث ذلك لكان هذا أمرا من الحماقة والطياشة بمكان عظيم، وهل من الممكن لإنسان يريد عمل شكل بيضاوي فيصب السائل في آنية كروية وينال بعد هذا ما يتمنی ؟ حاشا وكلا .
ونفس هذا المبدأ يسري على مطالعة الكتب ، من المؤكد أن الكتاب معلم صامت به تتكيف عقلية الطفل وأخلاقه ، فإذا طلب مني أن أبحث بحثا دقيقاً في أخلاق ومبادئ المدرس الناطق فمن الواجب علىّ حتما أن اهتم بأمر المدرس الصامت ، وبالإشارة للكتب والمدرسين لابد وأن ضمائرنا قد نخست وعقولنا قد أفزعت.
[4] نرى كثيرين من الناس يريحون أنفسهم على فكرة أن ابناءهم إن عاجلا أو آجلا سيرجعون للرب، ومعنى هذا أنهم لا يريدون تطبيق أقوال الله عليهم الآن ، فلو تحققتا أنهم ضمن دائرة مقاصد الله لماذا إذا لا نسير على هذا المبدأ الإلهي المرسوم لنا ؟، وإذا سكتنا عن العمل معهم حتى أن تظهر فيهم علامات التجديد فمن الواضح انه يلوح لي أننا نترقب أشياء خلاف مواعيد الله، إن هذا ليس من عمل الإيمان، فامتياز الوالد المسيحي تربية أبنائه في خوف الرب الآن ، فهو ملزم بالإيمان أن يسير على هذا المبدأ متكلا على الله في تحقيق أماله أولا وتنفيذ رغائبه في هذه المسالة الخطيرة الشأن، ولكن إذا صرت تترقب الأثمار أولا فهذا ليس من الإيمان ، وفضلا من ذلك ريما يتعثر الوالد ويتردد لما يرى عليه ابناءه في حالتهم الراهنة ، فربما انهم في أخلاقهم خبثاء عاطلين عنيدين متشردین جالبين إهانة وعار على اسم المسيح، ومع هذا كله ربما يريح نفسه بفكرة الأمل الكاذب بتجديدهم مع ركونه للكسل والتواني ، ومع التقاعد والخمول هذا لن يحصلوا على التجديد المزعوم أو التغيير المزعوم، فأبنائي ينبغي لهم أن يؤدوا الشهادة لله الآن - الآن ولا يمكنهم الثبات في هذا الموقف الخطير إلا بعد الرجوع بهم لكلمة الله والاتكال عليه في تجديدهم واهتدائهم
[5] قد يسال الوالد ماذا أعلم ابني ؟ الجواب سهل بسيط . علمه الأشياء التي تنفعه كخادم للمسيح، فلا  تعلمه شيئا يكون يوما منبعاً للنجاسة والانحطاط إذا سمح الرب ببقائه في العالم زمنا وبالنادر أننا نبدى الحيرة في اختيار انسب الأطعمة الموافقه لمزاج وصحة أبنائنا لأننا نعلم تمام العلم ما يعود عليهم بالتغذية وما يؤدي إلى عكس ذلك، والحق أولى أن يقال إننا لو كنا على استعداد في ميولنا الروحية كما نحن في رغائبنا الجسدية ما أبدينا حيرة مثل هذه عند اختيار ما نعلمه لأبنائنا من العلوم وفي هذا الخصوص كما في غيره يمكن أن يقال إن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرا، فإذا تمسكنا وحافظنا على كرامة المسيح وكان لنا رغبة مخلصة في نشرها لن نترك في حيرة وارتباك ولكن إذا لم نمتلئ بالنور فما ذلك إلا لأن عيوننا ليست بسيطة

[6] ولا تفوتني الفرصة في أن أذكّر ابناء المسيحيين بأنهم مسئولون شخصيا لسماع صوت كلمة الله المقدسة بغض النظر عن سلوك آبائهم الشخصي، فحق الله لا يتأثر بأعمال الناس فكل من سمع عن محبة الله التي ظهرت في موت وقيامة الرب يسوع المسيح فهو مسئول عن إظهار تعب محبته التي يجب أن يقابل بها معروف مخلصه، حتى ولو لم يرَ الآثار المقدسة لتلك المحبة بادية في سلوك وحياة والديه ، وإني أقدم هذه الحقائق الواضحة للفت نظر جميع أبناء المسيحيين لهذا الأمر الخطير.

[7] وأنتم أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم بل ربوهم في خوف الرب وإنذاره ، (اف 6: 4) إنه من الخطر ان نثير غضب أبنائنا بالمعاملات الاستبدادية وبالتضييق المعيب وبمثل هذه الغلظة كأننا نريد أن نكونهم حسب أهوائنا ورغائبنا الخاصة بدلاً من أن نربيهم في خوف الرب وإنذاره، وغلطة كهذه حتما تؤدي بنا إلى الخيبة والتشويش فضلاً عن أننا لا نربح شيئاً فيما يختص بتأدية الشهادة للمسيح إذا ما كوّنا الطبيعة العتيقة في أسمى وأبهى أشكالها، وأكثر من ذلك أن تربية الطبيعة العتيقة لا يتطلب إيماناً ، ولكننا في حاجة شديدة للإيمان إذا ما أردنا أن نربيهم في خوف الرب وانذاره.

[8] نرى في رسالة الرسول بطرس توضيحا لمبدأ حكومة الله الأدبية، وهذا الرسول نفسه يتساءل قائلا "من يؤذيكم إن كنتم متمثلين بالخير"، ونرى كثيرين يتحيرون للتوفيق مابين هذا القول وقول بولس، ”كل الذين يعيشون بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون" ، وليس هناك من ضرورة للقول بأن القولين متفقان تمام الاتفاق معنی ومبني، فالمسيح نفسه الذي كان متمثلا بالخير من البداية للنهاية والذي قيل عنه إنه جال يصنع خيرا كانت نهايته موت الصليب والقبر، ونفس بولس الرسول الذي كان واضعا نصب عينيه المسيح كمثله الأعلى التزم يوماً أن يشرب كأساً ملآنه من الذل والعذاب، ولقد كان ومازال وسيبقى أن كل من يتشبه ويتمثل بالمسيح أكثر وأكثر في مسيرته المقدسه كلما ناله حرمان واضطهاد أكثر من العالم، ولو تصورنا بجد إنسان مكرس حياته لله تكريسا تاما وقام في دائرة من دوائر العالم يعظ بالمسيح لأصبحت حياته في خطر مؤكد ، ولا خلاف ان هذه الحقائق الرامية لا تتعارض بحال من الأحوال مع استفهام بطرس وتساؤله، فغرض حكومة الله الأدبية هو حماية كل من يتمثل بالخير من كل أذى وتوقيع القصاص على كل من لا يتمثل بالخير، وهذا لن يتعارض ابدأ مع الطريق الأسمى لمن يتتلمذ عن غيرة للمسيح، ولن يحرم أي إنسان من شرف التشبه بالمسيح والتمثل بسيرته كما يجب، "لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضا أن تتألموا لأجله، إذ لكم الجهاد عينه الذي رأيتموه فيّ والان تسمعون فيّ" (في ۱ : ۲۹ ، ۳۰). ومن هذه الفقرة نفهم أننا قد وهب لنا أن نتألم من أجل المسيح وهذا في وسط مشهد يمكن أن يقال فيه على أساس حكومة الله الادبية من يؤذيكم إن كنتم متمثلين بالخير، والاعتراف بأننا من رعية الله ومن الخاضعين لأحكامه شئ وان تكون من اتباع المسيح المرفوض والمصلوب شي أخر، وحتى الفترة التي اقتبسناها من رسالة بطرس توضح لنا هذا التعليم السامي، فإن عملنا البر وتألمنا من اجله بصبر، فهذا يكون مقبولا لدى الله "لأنكم لهذا دعيتم، فإن المسيح أيضا تألم لأجلنا تاركا لنا مثالا لكي تتبعوا خطواته" (1بط 2  : 21) وإذا تألم المسيحي بسبب تشبهه بالمسيح فلا يخجل، بل بالحري يمجد الله من هذا القبيل (ابط 4 : 15-16) .


[9] لا شئ أكثر إيلاما للنفس من سماع والدة تقول لولد لا نرغب في أن نطلع الوالد عن هذا الأمر شيئاً واذا ما حصل هذا الأمر عينه من الوالد يكون هذا معناه وجود خطأ فاحش في الأسرة، وفي حالة كهذه لا نظام ولا ترتيب مقدس منتظر وجوده وسط أهل هذا البيت لأنه إما أن الوالد مستبد غاية الاستبداد حتی أن جوره ينشئ غيظا في نفوس ابنائه، وإما أن الوالدة تدلل الولد وتدربه على العناد على حساب نفوذ وسلطان والده وعلى الحالين يوجد مانع كبير للشهادة وضرر بليغ يعود على الأبناء ومن هنا يتبين ضرورة ظهور الوالد والوالدة في وحدة مقدسة أمام الأبناء والخدم، وإذا ما ظهر أقل خلاف فيما يختص بإدارة المنزل، ليكن هذا موضوع مناقشة خاصة سرية وصلوات وحكم على النفس فيما بعد في حضرة الله، ولكن لا يجوز ان يظهر هذا الضعف لأفراد الأسرة المحكومين لأنهم اذا ما شاهدوا ضعفا في حكومتهم لاحتقروها ونبذوها .