الأربعاء، 21 سبتمبر 2022

 

صبر الله

The Patience of God

 

ما كُتب عن صفة الكمال هذه أقل بكثير مما كتب عن صفات الكمال الأخري للذات الإلهية , مر عدد ليس بقليل من الذين أسهبوا في الحديث عن الصفات الإلهية علي صبر الله بدون أناة الله هي بالتأكيد واحدة من الكمالات الإلهية تساوي حكمته وقوته وقداسته , ولها نفس الحق في الإعجاب والاحترام , صحيح ان التعبير الفعلي ليس موجوداً في فهرس الكتاب المقدس بكثرة مثل الصفات الأخري , لكن مجد هذه النعمة نفسها يلمع تقريباً علي كل صفحات كلمة الله , من المؤكد أننا نخسر كثيراً إن لم نتأمل باستمرار في صبر الله ونصلي بإخلاص أن تتشكل قلوبنا وطرقنا بالكامل علي هذا النحو .

في الأغلب السبب الرئيسي لعدم كتابة كثير من الكُتاب , بصورة منفصلة وأي شئ عن صبر الله هو بسبب صعوبة تمييز هذه الصفة عن صلاح الله ورحمته , خصوصاً الأخيرة , يتم ذكر أناة الله متصلة مع نعمته ورحمته كثيراً , كما يتضح حين نذهب للشواهد الخروج 34 : 6 , العدد 14 : 18 , مزمور 86 : 15 . أن صبر الله هو إعلان عن رحمته , فهذه في الواقع طريقة كثيرا ما تستخدم لإظهاره , هذا أمر لا يمكن إنكاره , لكن إنهما نفس الصفة السامية , ولا يمكن التمييز بينهما , فهذا لا يمكن أن نقبله , قد لا يكون من السهل ان نميز بينهما , لكن كلمة الله تضمن لنا هذا تماما , وذلك عن طريق توقع بعض الأمور من الواحدة ولا نتوقعها من الأخري .

يعطي ستيفين شارنوك تعريفاً لصبر الله جزئياً كالتالي :

" إنه جزء من صلاح الله ورحمته , لكنه يختلف عن الاثنين , الله الذي هو أعظم صلاح , له أعظم لطف , اللطف هو دائماً رفيق الصلاح الحقيقي , وكلما زاد الصلاح , زاد اللطف , من هو قدوس كالمسيح , ومن في لطفه ؟ ينبثق بطء غضب الرب من رحمته : "الرب حنان ورحيم طويل الروح" (مز 145 : 8) , أنه يختلف عن الرحمة في الاعتبار الرسمي للموضوع , تري الرحمة المخلوق بائساً , يري الصبر المخلوق مجرماً , تشفق الرحمة عليه في بؤسه , يتحمل الصبر الخطية التي ولَّدَت البؤس , والتي تلد غيرها" .

يمكننا ان نعطي تعريفاً للصبر الإلهي بأنه تلك القوة علي ضبط النفس التي يمارسها الله علي ذاته , والتي تجعله يتحمل الأشرار ويتمهل كثيراً في عقابهم , في (ناحوم 1 : 3) نقرأ "الرب بطئ الغضب وعظيم القدرة" والتي قال عنها السيد تشارنوك .

"عظماء العالم سريعوا الغضب , وليسوا علي استعداد ان يغفروا الإساءة أو يتحملوا الإهانة ممن هم أقل منهم شأناَ , عدم وجود القوة علي التحكم في النفس هي التي تجعل الشخص يقوم بعمل أشياء غير لائقة حين يُثاَر غضبه , الأمير الذي يمكنه كبح عواطفه هو ملك علي ذاته كما هو علي رعاياه , الله بطئ في الغضب لأنه عظيم في القوة , إن له نفس القوة علي نفسه كما هي علي مخلوقاته" .

هذه النقطة السابقة , كما نعتقد , هي التي تميز صبر الله بوضوح عن رحمته , رغم أن المخلوق هو المستفيد من هذا , لكن صبر الله يراعي بصورة رئيسية ذات الله , هو قيد وضعته إرادته علي أعماله , بينما تستقر رحمة الله بالكامل علي المخلوق , صبر الله هو صفة السمو هذه التي تجعل الله يتحمل إساءات كبيرة دون أن ينتقم لنفسه في الحال , إن له قوة علي الصبر لا تقل عن قوته علي العدل , وهكذا نجد الكلمة العبرية التي تصف طول أناة الله هي "طويل الروح" في (نح 9 : 17) , (مز 103 : 8) ليس معني هذا أن طبيعة الله ليس بها غضب ’, بل أن حكمة الله وإرادته يسرها أن تعمل بهذا الجلال وهذه الرصانة اللذان يصبحان جلالته المتعالية .

تأييداً لتعريفنا السباق دعونا نوضح ان هذه الصفة السامية هي التي لمسها موسي في شخص الله , حين أخطأ شعب اسرائيل بشكل فادح عند قادش برنيع , وهناك أغضبوا يهوه غضباً مريراً , قال الرب لعبده , سأضربهم بالوباء وأحرمهم من أن يروا الأرض التي حلفت لأبائهم, وهنا قال الوسيط الذي يعد مثالاً للمسيح المتجسد الآتي "فالأن لتعظم قدرة سيدي كما قلت : الرب طويل الروح" (عدد 14 : 17) وهكذا طول أناة الله هو "قوته" علي ضبط النفس .

أيضاً في (رومية 9 : 22) نقرأ "فماذا إن كان الله وهو يريد أن يظهر غضبه ويبين قوته احتمل بأناة كثيرة آنية غضب مهيأة للهلاك ...؟" لو هشم الله علي الفور هذه الآنية الشريرة , ما كانت قوته علي ضبط النفس لتظهر بهذا الوضوح , لكن بتحمله شرهم وتأنيه في عقابهم هذه المدة , تظهر قوة صبره بصورة مجيدة , صحيح أن الشرير يفسر طول الأناة بصورة مختلفة "لأن القضاء علي العمل الردئ لا يجري سريعاً فلذلك امتلأ قلب بني البشر فيهم لفعل الشر" (جا 8 : 11) , لكن العين الممسوحة من الله تعبد ما يهينه البشر .

 

"إله الصبر" (رو 15 : 5) هو أحد ألقاب الله , يسمي الله هكذا

·                      أولاً : لأنه هو رئيس وموضوع نعمة الصبر في المؤمن .

·                      ثانياً : لأنه هو هكذا في نفسه , فالصبر هو أحد كمالاته .

·                      ثالثاً : كنموذج لنا : "فَالْبَسُوا كَمُخْتَارِي اللهِ الْقِدِّيسِينَ الْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفًا، وَتَوَاضُعًا، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاةٍ" (كو 3 : 12) وأيضاً "فَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ (مقلدين) بِاللهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ،" (أف 5 : 1) حين تواجه تجربة أن تتعالي علي غباء شخص آخر , أو أن تنتقم لنفسك من شخص أخطأ في حقك , تذكر صبر الله غير المحدود وطول أناته عليك .

يظهر صبر الله في تعاملاته مع الخطاة , كم كان صبره ظاهراً بصورة مُدهشة تجاه من كانوا قبل الطوفان ! , حين كان الجنس البشري منحطاً بأكمله وقام كل جسد بإفساد طريقه , لم يهلكهم الله حتي سبق فحذرهم , لقد "انتظر" (1بط 3 : 20) حوالي ما لا يقل عن مائة وعشرين عاماً (تك 6 : 3) , وفي هذا الوقت كان نوح "كارزاً للبر" (2بط 2 : 5) , ولاحقاً حين لم تكتف الأمم بعبادة وخدمة المخلوق دون الخالق , بل أيضاً اقترفوا أبشع الرجاسات التي تناقض حتي قوانين الطبيعة (رو 1 : 19-26) , مما جعلهم يملأون كأس إثمهم , لكن بدلاً من أن يستل سيفه للقضاء علي هؤلاء المتمردين , "تَرَكَ جَمِيعَ الأُمَمِ يَسْلُكُونَ فِي طُرُقِهِمْ" وأعطاهم "مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَارًا وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً، "(أعمال 14 : 16-17) .

أظهر الله صبره ومارسه بصورة عجيبة مع اسرائيل , أولاً : "وَنَحْوَ مُدَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، احْتَمَلَ عَوَائِدَهُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ. " (أع  13 : 18) لاحقاً , حين دخلوا كنعان , لكنهم اتبعوا العادات الشريرة للأمم التي حولهم , واتجهوا لعبادة الأوثان , رغم ان الله أدبهم بقوة , لكنه لم يُفنهم بالكامل , لكن في ضيقهم , أقام لهم من ينقذونهم , حين زاد شرهم إلي حد لا يقدر أن يتحمله غير الله ذي الصبر غير المحدود , وبالرغم من ذلك , عفا عنهم سنين عديدة قبل أن يسمح أن يؤخذوا إلي بابل , أخيراً , حين وصل تمردهم إلي أقصاه حين صلبوا ابنه , انتظر أربعين عاماً قبل أن يرسل الرومان عليهم , وهذا بعد أن حكموا هم علي أنفسهم أنهم "غير مستحقين للحياة الأبدية" (أع 13 : 46) .

كم أن صبر الله علي العالم اليوم عجيب ! , من كل ناحية يأثم الناس بشدة , إنهم يدوسون القانون الإلهي تحت أقدامهم ويحتقرون الله نفسه علناً , من المذهل حقاً أنه لا يقتل في الحال هؤلاء الذين يتحدّونه بهذه الوقاحة , لماذا لا يقطع فجأة هذا المجدف المتكبر , المفتري الوقح , كما فعل مع حنانيا وسفيرة ؟ لماذا لا يجعل الأرض تفتح فمها وتبتلع الذين يضطهدون شعبه , حتي أنهم مثل داثان وأبيرام , يذهبون أحياء الي الحفرة ؟ وماذا عن العالم المسيحي المرتد , حيث تُقبل كل أشكال الخطية وتُمارَس تحت غطاء اسم المسيح القدوس؟ لماذا لا يضع غضب الله المقدس حدَّاً لهذه الرجاسات ؟ لا توجد غير إجابة وحيدة ممكنة , لأن الله "احْتَمَلَ بِأَنَاةٍ كَثِيرَةٍ آنِيَةَ غَضَبٍ مُهَيَّأَةً لِلْهَلاَكِ" (رو 9 : 22).

وماذا عن الكاتب والقارئ ؟ فلنراجع حياتنا , لم يكن بوقت بعيد أننا مشينا وراء الجموع لفعل الشر , ولم نكن نبالي بمجد الله , وعشنا فقط لإرضاء أنفسنا , كما كان الله صبوراً ان تحمَّل سلوكنا الدنئ ! , والآن بعد أن انتشلتنا النعمة كجمر من النار , وأعطتنا مكاناً في بيت الله , ومنحتنا ميراثاً أبدياً في المجد , كم نرُّد الصنيع لله بالشح ! يا لضحالة شكرنا , يا لتردي طاعتنا , يا لكثرة سقطاتنا ! من أسباب سماح الله ببقاء "الجسد" في المؤمن أنه يعلن أنه "يتأني علينا" (2بط 3 : 9) , حيث أن هذه الصفة الإلهية لا تعلن إلا في هذا العالم , فالله يستخدمها في إعلانها لشعبه .

فليكن تأملنا في صفة التميز الإلهي هذه يلين قلوبنا , يجعل ضمائرنا أكثر رقة , ولنتعلم في مدرسة الاختبار المقدس "صبر القديسين" وتحديداً الخضوع للإرادة الإلهية والاستمرار في عمل الخير , فلنطلب بصدق نعمة التمثل بهذه الصفة الإلهية , "فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ" (مت 5 : 48) , في السياق المباشر , يحثنا المسيح أن نحب أعداءنا , ونبارك لاعنينا , ونحسن إلي من يسيئون إلينا , إن الله يحتمل الأشرار كثيراً بالرغم من عظم حجم خطيتهم , فهل نطلب نحن الانتقام بسبب إساءة واحدة ؟ .

 

 ارثر بنك

ليست هناك تعليقات: