الثلاثاء، 13 سبتمبر 2022

 

معرفة الله

The Knowledge of God

 

الله كلي المعرفة , إنه يعرف كل شئ , كل ما هو ممكن , كل ما هو واقع , كل الأحداث , كل المخلوقات , هو إله الماضي , والحاضر , والمستقبل , إنه علي علم تام بكل التفاصيل في حياة كل كائن في السماء , وعلي الأرض وفي الجحيم , "هُوَ يَكْشِفُ الْعَمَائِقَ وَالأَسْرَارَ. يَعْلَمُ مَا هُوَ فِي الظُّلْمَةِ، وَعِنْدَهُ يَسْكُنُ النُّورُ" (دا 2 :22) لا يوجد شئ يفلت من ملاحظته , لا يُخفي عنه شئ , ولا يُنسي منه شئ , نقدر أن نقول مع كاتب المزمور "عَجِيبَةٌ هذِهِ الْمَعْرِفَةُ، فَوْقِي ارْتَفَعَتْ، لاَ أَسْتَطِيعُهَا" (مز139 : 6) معرفته الكاملة , إنه لا يخطئ أبداً , ولا يتغير أبداً , ولا يغفل عن شئ أبداً , "وَلَيْسَتْ خَلِيقَةٌ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ قُدَّامَهُ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ عُرْيَانٌ وَمَكْشُوفٌ لِعَيْنَيْ ذلِكَ الَّذِي مَعَهُ أَمْرُنَا" (عب 4 : 13)  نعم , هذا هو الله "الذي معه أمرنا (نحن)" .

"أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ مَسْلَكِي وَمَرْبَضِي ذَرَّيْتَ، وَكُلَّ طُرُقِي عَرَفْتَ. لأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي، إِلاَّ وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا" (مز 139 : 2-4).  يا له من "كائن"عجيب إله الكتاب المقدس هذا ! , يجب أن تعطيه كل صفة من صفاته المجيدة كرامة في تقديرنا . حين ندرك كمال معرفته علينا أن ننحني إجلالاً له  , لكننا قليلاً ما نتأمل في صفة الكمال الإلهية هذه ! , هل يرجع هذا لكون التفكير فيها يصيبنا بالقلق ؟ .

كم هي حقيقة مهيبة ! , لا يُخفي عنه شئ ! , "قُلْ: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هكَذَا قُلْتُمْ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ، وَمَا يَخْطُرُ بِبَالِكُمْ قَدْ عَلِمْتُهُ." (حز 11 : 5) , رغم كونه خفياً عنا , فنحن لا نقدر أن نُخفي عنه شئ , لا تقدر أكثر الليالي ظلاماً , أو أكثر الستائر إعتاماً , أو أكثر السجون عمقاً أن تُخفي خاطئاً عن عيني معرفته الكاملة , لم تقدر أشجار الجنة أن تُخفي أبوينا الأولين , لم تري أي عين بشرية قايين حين قتل أخاه , لكن صانعه شهد جريمته , قد تكون سارة ضحكت بسخرية في عزلة خيمتها , لكن يهوه سمعها , سرق عخان لساناً ذهبياً وخبأه بعناية في الأرض , لكن الرب أظهره للنور , تعب داود كثيراً ليخبئ شره , لكن سريعاً ما أرسل الله الذي يري كل شئ واحد من خدامه ليقول له "أنت هو الرجل" ويقول أيضاً للكاتب والقارئ "وَتَعْلَمُونَ خَطِيَّتَكُمُ الَّتِي تُصِيبُكُمْ." (عد 32 : 23) .

قد يحاول البشر ان يحرموا الله من صفة المعرفة الكاملة , ويا له من دليل علي أن "اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ عَدَاوَةٌ ِللهِ، " (رو 8 : 7) ! , يكره الأشرار صفة الكمال الإلهية هذه بقدر ما يكرهون أيضاَ أنهم مجبرون طبيعياً أن يعترفوا بها . إنهم يتمنون لو أنه لا يوجد الله , هذا الشاهد علي خطاياهم , الفاحص لقلوبهم , والديان لأعمالهم , إنهم يسعون لينفوا الله هذا من أفكارهم "وَلاَ يَفْتَكِرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ أَنِّي قَدْ تَذَكَّرْتُ كُلَّ شَرِّهِمْ. اَلآنَ قَدْ أَحَاطَتْ بِهِمْ أَفْعَالُهُمْ. صَارَتْ أَمَامَ وَجْهِي" (هوشع 7 : 2) . كم أن المكتوب في (مز 90 : 8) كلام رهيب ومُخيف ! , وهو سبب جيد لكل من يرفض المسيح لكي يرتعد قدامه "قَدْ جَعَلْتَ آثامَنَا أَمَامَكَ، خَفِيَّاتِنَا فِي ضَوْءِ وَجْهِكَ" .

أما بالنسبة للمؤمن , فحقيقة كمال معرفة الله هي حقيقة مشحونة بالكثير من التعزية , فهو يقول في أوقات الحيرة مع أيوب "لأَنَّهُ يَعْرِفُ طَرِيقِي" (ايوب 23 : 10) , قد يكون هذا أمراً عميق الغموض بالنسبة لي , وغير مفهوم علي الإطلاق لأصدقائي , لكن "اللهَ يَعْرِفُ قُلُوبَكُمْ" (لو 16 : 15) , في أوقات القلق و الضعف يطمئن المؤمنون أنفسهم , "لأَنَّهُ يَعْرِفُ جِبْلَتَنَا. يَذْكُرُ أَنَّنَا تُرَابٌ نَحْنُ" (مز 103 : 14) , في أوقات الشك والريبة يلجأون لتلك الحقيقة قائلين "اخْتَبِرْنِي يَا اَللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَاهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا" (مز 139 : 23-24) , في أوقات الفشل الحزين , حين تناقض أعمالنا قلوبنا , ويأتينا السؤال الفاحص "أتحبني؟" نقول مع بطرس "يَارَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ" (يو 21 : 17) .

ها هو تشجيع علي الصلاة , لا يوجد سبب للخوف من ألا تُسمع تضرعات الصديقين , أو أن تفلت تأوهاتهم ودموعهم من ملاحظة الله , لأنه يعرف أفكار القلب ونياته , لا يوجد خطر أن يتم التغاضي عن قديس واحد وسط جموع المتضرعين الذين يقدمون تضرعاتهم كل يوم وكل ساعة , لأن العقل غير المحدود قادر ان يعطي نفس الاهتمام بملايين البشر , وكأنه لا يوجد غير شخص واحد يلتمس اهتمامه , وكذلك عجز اللغة المناسبة , وعدم القدرة علي التعبير عن أعمق أشواق النفس , لا تعرض صلواتنا للخطر , لأنه "وَيَكُونُ أَنِّي قَبْلَمَا يَدْعُونَ أَنَا أُجِيبُ، وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بَعْدُ أَنَا أَسْمَعُ" (اش 65 : 24) .

"عَظِيمٌ هُوَ رَبُّنَا، وَعَظِيمُ الْقُوَّةِ. لِفَهْمِهِ لاَ إِحْصَاءَ" (مز 147 : 5) , ليس الله علي علم فقط بما جري في الماضي في كل نواحي سلطانه الواسع , وهو لا يدري دراية كاملة فقط بكل ما يجري في كل أنحاء الكون , لكنه أيضاً مدرك تماماً بكل حدث , من أقلها الي اكبرها سيحدث في العصور القادمة , معرفة الله بالمستقبل معرفة تامة , تماماً كمعرفته بالماضي والحاضر , وذلك لأن المستقبل يعتمد بالكامل علي الله نفسه , لو كان من الممكن ان يحدث أي شئ بمعزل عن تدخل الله المباشر أو سماحه لكان هذا الشئ مستقلا عن الله , ولن يعود الله هو الكائن الأعظم .

ليست معرفة الله بالمستقبل مجرد أمر مجرداً , لكنها امر مرتبط ارتباطاً وثيقاً بخطته ويصاحبها , لقد أعدّ الله نفسه ما سيحدث , وما قد أعده لابد وأن يتم , وكما تؤكد كلمته الأكيدة , "هُوَ يَفْعَلُ كَمَا يَشَاءُ فِي جُنْدِ السَّمَاءِ وَسُكَّانِ الأَرْضِ، وَلاَ يُوجَدُ مَنْ يَمْنَعُ يَدَهُ أَوْ يَقُولُ لَهُ: «مَاذَا تَفْعَلُ؟»." (دا 4 : 35) وأيضاً "فِي قَلْبِ الإِنْسَانِ أَفْكَارٌ كَثِيرَةٌ، لكِنْ مَشُورَةُ الرَّبِّ هِيَ تَثْبُتُ." (أم 19 : 21) , ولكون حكمة الله وقوته أمرين غير محدودين , فتتميم ما قصده هو أمر مضمون ضماناً مطلقاً , عدم إمكانية فشل المشورة الإلهية في قصدها هو أمر أكيد مثل عدم إمكانية كذب الله القدوس مثلث الأقانيم .

لا يوجد أمر غير أكيد فيما يتعلق بأي شئ في المستقبل بالنسبة لتحقيق مشورة الله , لا يوجد قصد واحد من مقاصد الله معتمد سواء علي المخلوقات أو الأسباب الثانوية , لا يوجد حدث مستقبلي هو مجرد احتمال , أي أنه أمر قد يحدث أو لا يحدث "مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الرَّبِّ مُنْذُ الأَزَلِ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ." (أع 15 : 18) , فما قد قرره الله هو أمر أكيد لا محالة , لأنه "لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ" (يع 1 : 17) , لذلك عرفنا في بداية هذا الكتاب الذي يكشف لنا الكثير عن المستقبل , عن "مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَرِيبٍ" (رؤيا 1 :1) .

معرفة الله الكاملة تتمثل وتتضح في كل نبوة مسجلة في كلمة الله  , في العهد القديم ستجد سجلات لنبوات تتعلق بتاريخ اسرائيل , وقد تمت بحذافيرها , وذلك بعد قرون من التنبؤ بها , وتجد فيها أيضاً نبوات اكثر عن حياة المسيح الأرضية , وقد تمت هذه ايضاً حرفياً وبالتمام , لا يمكن ان تُعطي هذه النبوات إلا من الواحد الذي كان يعرف النهاية من البداية , والذي تأسست معرفته علي التأكيد غير المشروط من تحقق كل ما أخبر به , وبنفس الطريقة , احتوي كل من العهد الجديد علي إعلانات اخري مستقبلية وكل ما فيها أيضاَ "أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ " (لو 24 : 44) ولابد أن يكون هذا لأن الذي أخبر بها هو الذي أصدرها .

لذلك يجب أن نوضح أنه لا يجب اعتبار معرفة الله بالمستقبل أو إدراكه له , هما أمور مسببه في ذاتها  , لم يحدث شئ , أو سيحدث فقط لمجرد علم الله به , المُسبب لكل شئ هو إرادة الله , من يؤمن حقاً بكلمة الله يعرف مسبقاً أن الأزمنة ستستمر في التتابع بانتظام لا يفشل حتي انتهاء تاريخ الأرض (تك 8 : 22) , ولكن معرفته ليست هي المسبب وراء تتابعها , إذا لا تنشأ معرفة الله من الأشياء لأنها موجودة أو ستوجد بل لأنه رتب وجودها , كان الله يعمل بصلب ابنه وأخبر بها قبل أن يتجسد بمئات السنين , وهذا لأنه في خطته الإلهية , كان هو الحمل المذبوح منذ تأسيس العالم , لذلك نقرأ أنه كان "مُسَلَّمًا بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ، " (اع 2 : 23) .

إليك كلمة بخصوص هذا الشأن , يجب أن تملأنا معرفة الله غير المحدودة بالدهشة , كم أن الله مرتفع عن أحكم حكماء البشر ! , لا يعرف أي منا ما ستجلبه الأيام , لكن المستقبل مكشوف أمام عينيه التي تعلم كل شئ , يجب أن تملأنا معرفة الله غير المحدودة بالرهبة المقدسة , لا يوجد ما نفعله , أو نقوله , أو نفكر فيه , يفلت من نظر ذاك الذي معه أمرنا لأن "فِي كُلِّ مَكَانٍ عَيْنَا الرَّبِّ مُرَاقِبَتَانِ الطَّالِحِينَ وَالصَّالِحِينَ." (أم 15 : 3) , كم سيكون هذا الأمر ضابطاً لحياتنا , إن تأملنا فيه كثيرا ! , بدلا من التصرف برعونة , علينا ان نقول مع هاجر "«أَنْتَ إِيلُ رُئِي». " (تك 16 : 13) (أي انت الله الذي يري كل شئ) , يجب أن يملأ إدراك معرفة الله الكاملة المؤمنين بالتعبد , لقد كانت حياتي كلها مكشوفه لعينيه من البداية , كان يري كل سقطاتي , كل خطاياي , كل ارتدادي , ومع ذلك , وضع قلبه عليَّ , كم ان هذا الإدراك يجعلني أنحني وأسجد أمامه !! .

 

 للكاتب : ارثر بنك

ليست هناك تعليقات: