السبت، 10 سبتمبر 2022

الله الذي لا يتغير

 

الله الذي لا يتغير

 

هذه واحدة من الكمالات الإلهية التي لا يتأمل فيها كثيرون , أنها من صفات التميز التي للخالق والتي تميزه عن مخلوقاته , الله هو هو علي الدوام , لا يخضع لأي تغيير في وجوده , أو صفاته , أو قراراته , لذلك يشبه الله بالصخرة (تث 32 : 4) التي تبقي بلا حراك , في حين أن المحيط كله الذي يحيط بها في حالة تقلب مستمرة , وبالرغم من ذلك , رغم أن كل المخلوقات قابلة للتغيير , فالله ثابت لا يتغير , وحيث إن الله ليس له بداية أو نهاية , فهو لا يعرف أي تغيير , إنه إلي الأبد "أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ" (يع 1 : 17) . .

أولاً : الله ثابت لا يتغير في جوهره , طبيعته ووجوده غير محدودين , لذلك فهو لا يخضع لأي تحوُّل , لم يكن هناك زمن لم يوجده فيه , ولن يوجد زمن سيتوقف الله عن كونه فيه , لم يطرأ علي الله أي تطور , أو نمو , أو تحسين , كل ما هو عليه الآن , كان منذ الأزل , وسيبقي إلي الأبد , "لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ لاَ أَتَغَيَّرُ " (ملا 3 : 6)  هذا هو تأكيده التام , لا يمكنه أن يتغير للأحسن , لأنه كامل بالفعل , وحيث إنه كامل , لا يمكنه أن يتغير للأسوأ , إنه لا يتأثر مطلقاً بأي شئ خارج عنه , التحسن او التدهور هما أمران مستحيلان , إنه هو هو علي الدوام , هو الوحيد القادر أن يقول "«أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ»" (خر 3 : 14) إنه لا يتأثر علي الاطلاق بمرور الزمن , لا توجد تجاعيد علي جبين الأبدية , لذلك لا يمكن لقوته أن تقل أو لمجده أن يزول.

ثانياً : الله ثابت لا يتغير في صفاته , الصفات التي كان الله عليها قبل دعوة الكون للوجود , هي هي بالضبط الآن , وستبقي كذلك للأبد , وهذا بالضرورة , لأنها هي نفسها كمالات وجوده  وصفاته الأساسية , "هو هو دائماً" هي عبارة مكتوبة علي كل منها , قوته لا تخمد , وحكمته لا تنقص , وقداسته لا تتلوث , كما ان اللاهوت لا يمكن ألا يوجد , كذلك لا يمكن لصفات الله ان تتغير , صدقه لا يتغير , لأن كلمته "إِلَى الأَبَدِ يَا رَبُّ كَلِمَتُكَ مُثَبَّتَةٌ فِي السَّمَاوَاتِ" (مز 119 : 89) , محبته أبدية "مَحَبَّةً أَبَدِيَّةً أَحْبَبْتُكِ، " (ار 31 : 3) "قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى" (يو 13 : 1) , رحمته لا تتوقف لأنها إلي الأبد (مز 100 : 5) .

ثالثاً : الله ثابت لا يتغير في مشورته , إرادته لا تتغير , قد يعترض البعض قائلين إن علينا أن نقرأ التالي : "فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ" (تك 6 : 6)  , وأول رد لنا هو : إذا فهل تناقض كتبه نفسها ؟ لا , هذا لا يمكن أن يكون لأنه "لَيْسَ اللهُ إِنْسَانًا فَيَكْذِبَ، وَلاَ ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ. هَلْ يَقُولُ وَلاَ يَفْعَلُ؟ أَوْ يَتَكَلَّمُ وَلاَ يَفِي؟" (عدد 23 : 19) وكذلك (1صم 15 : 29) "نَصِيحُ إِسْرَائِيلَ لاَ يَكْذِبُ وَلاَ يَنْدَمُ، لأَنَّهُ لَيْسَ إِنْسَانًا لِيَنْدَمَ»." التفسير البسيط جداً , حين يتكلم الله عن نفسه , يستخدم كثيراً كلمات تتوافق مع قدراتنا المحدودة , إنه يصف نفسه كمن يكتسي باعضاء جسدية , كالعينين  , والأذنين , واليدين , إنه يقول عن نفسه إنه "يستيقظ" (مز 78 : 65) وإنه يصحو "مبكراً" (ار 7 : 13) , ولكنه لا ينعس ولا ينام وحين ينشئ تغيراً في تعاملاته مع البشر  , فهو يصف هذا السلوك "بالندم" .

نعم , الله ثابت لا يتغير في مشورته , "لأَنَّ هِبَاتِ اللهِ وَدَعْوَتَهُ هِيَ بِلاَ نَدَامَةٍ." (رو 11 : 29) , ويجب ان تكون كذلك لأنه "أَمَّا هُوَ فَوَحْدَهُ، فَمَنْ يَرُدُّهُ؟ وَنَفْسُهُ تَشْتَهِي فَيَفْعَلُ." (أيوب 23 : 13)  , التغير والاضمحلال موجودان في كل شئ نراه , خططه : الاحتياج للرؤية المسبقة لتوقع كل شئ , أو عدم القدرة علي تنفيذها , ولكن حيث إن الله كل العلم وكلي القدرة فلا حاجة له أن يغير مقاصده , لا " مُؤَامَرَةُ الرَّبِّ فَإِلَى الأَبَدِ تَثْبُتُ. أَفْكَارُ قَلْبِهِ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ." (مز 33 : 11)  لذلك نقرأ عن "عَدَمَ تَغَيُّرِ قَضَائِهِ،" (عب 6 : 17) .

وهنا يمكننا أن ندرك المسافة اللانهائية التي تفصل بين أعلي المخلوقات والله العلي , ان تكون مخلوقاً وقابلاً للتغير هما تعبيران متلاصقان , لو لم يكن المخلوق قابلا للتغير بالطبيعة , لما كان مخلوقاً : لكان هو الله , بالطبيعة نحن لا شئ لأننا جئنا من لا شئ , لا يوجد ما يمنع فناءنا إلا إرادة الله وقوته الساندة , لا يقدر أحد أن يحمل نفسه ولا لحظة واحدة , نحن نعتمد بالتمام علي الخالق في كل نسمة نتنفسها , ونحن نعترف بسرور مع كاتب المزمور , "الْجَاعِلَ أَنْفُسَنَا فِي الْحَيَاةِ، " (مز 66 : 9) , يجب ان يجعلنا ادراك هذه الحقيقية نسجد في شعور من عدم الاستحقق في محضره , "لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ" (اع 17 :28) .

لأننا مخلوقات ساقطة فنحن لسنا فقط قابلين للتغير , بل أيضاً كل ما فينا يقاوم الله , لذلك نحن "نُجُومٌ تَائِهَةٌ " (يه 13) , ندور خارج مسارنا الصحيح , الأشرار "كَالْبَحْرِ الْمُضْطَرِبِ لأَنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَهْدَأَ، وَتَقْذِفُ مِيَاهُهُ حَمْأَةً وَطِينًا." (إش 57 : 20) البشر الساقطون غير مستقرين , كلمات يعقوب عن رأوبين تنطبق بكل قوة علي كل بني ادم "فَائِرًا كَالْمَاءِ لاَ تَتَفَضَّلُ،" (تك 4:49) , لذلك ليس فقط من التقوي , بل أيضاً من الحكمة أن نتبع هذا التحريض "كُفُّوا عَنِ الإِنْسَانِ الَّذِي فِي أَنْفِهِ نَسَمَةٌ، لأَنَّهُ مَاذَا يُحْسَبُ؟" (إش 2 : 22) . لا يوجد انسان يُعتمد عليه "لاَ تَتَّكِلُوا عَلَى الرُّؤَسَاءِ، وَلاَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَيْثُ لاَ خَلاَصَ عِنْدَهُ." (مز 146 : 3) . إن عصيت الله , فأنا أستحق ان يخدعني رفاقي ويخيبوا أملي , من يحبونك اليوم , قد يكرهونك غداً . نفس الجموع التي صرخت "أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ!" تغيروا سريعاً إلي "خُذْهُ! خُذْهُ! اصْلِبْهُ! " .

وهنا نجد تعزية ثابتة , لا يمكن الاعتماد علي الطبيعة البشرية , لكن يمكن الاعتماد علي الله ! . مهما كنت غير ثابت , ومهما كان أصدقائي متقلبين , فالله لا يتغير , لو كان متغيرا مثلنا , لو كان يريد اليوم أمراً وغيره غداً , لو كانت تحكمه النزوات , فمن يثق به ؟ لكن الله الذي لاسمه المجيد كل التسبيح , هو هو لا يتغير , مشيئته ثابتة , إرادته مستقرة , وكلمته أكيدة , نجد هنا صخرة نثبت عليها أقدامنا , بينما يقوم السيل العظيم باكتساح كل شئ حولنا , دوام شخصية الله يضمن تحقيق وعوده , "فَإِنَّ الْجِبَالَ تَزُولُ، وَالآكَامَ تَتَزَعْزَعُ، أَمَّا إِحْسَانِي فَلاَ يَزُولُ عَنْكِ، وَعَهْدُ سَلاَمِي لاَ يَتَزَعْزَعُ، قَالَ رَاحِمُكِ الرَّبُّ." (إش 54 : 10) . ونجد هنا تشجيعاً علي الصلاة :

"أي تعزية في الصلاة لإله مثل الحرباء , يغير لونه كل لحظة ؟

من سيتضرع إلي رئيس أرضي متغير حتي أنه يقبل تضرعاً اليوم

, ويرفضه في يوم آخر ؟"

(ستيفن تشيرنوك )

 

قد يسأل أحدهم , وما الفائدة من الصلاة لمن قد ثبّت ارداته بالفعل ؟ والإجابة هي لأنه يطلب منا ذلك , ما هي البركات التي وعد الله بها بدون أن نطلبها ؟ "إِنْ طَلَبْنَا شَيْئًا حَسَبَ مَشِيئَتِهِ يَسْمَعُ لَنَا" (1يو 5 : 14) وهو قد أراد كل شئ لخير أولاده , إن كنا نطلب شيئا ليس حسب مشيئته فهذه ليست صلاة , إنها تمرد صريح .

ونجد هنا رعباً للأشرار , من يرفضون الله , ويكسرون نواميسه , ولا يبالون بمجده , بل يعيشون وكأنه غير موجود , عليهم ألا يفترضوا , حين يصرخون في النهاية طالبين رحمته , أنه سيغير إرادته , أو يبطل كلمته , ويلغي تهديداته المخيفة , لا , فقد أعلن " فَأَنَا أَيْضًا أُعَامِلُ بِالْغَضَبِ، لاَ تُشْفُقُ عَيْنِي وَلاَ أَعْفُو. وَإِنْ صَرَخُوا فِي أُذُنَيَّ بِصَوْتٍ عَال لاَ أَسْمَعُهُمْ»." (حز 8 : 18) . لن ينكر الله نفسه ليرضي شهواتهم , الله قدوس , ولا يتغير , لذلك فالله يكره الخطية , يكرهها كراهية أبدية , ومن هنا تأتي أبدية عقوبة كل من يموت في خطاياه .

" ثبات الله وعدم تغيره مثل السحاب الذي كان يفصل بين الاسرائيليين وجيش المصريين , له جانب مظلم كما أن له جانب مضئ , إنه يضمن تنفيذ تهديداته , كما يضمن تميمه لمواعيده , وينهي الأمل الذي يتمسك به الخطاة بحماقة , أنه سيتعامل معهم بطريقة أخف من الإعلانات التي تقودنا كلمته لنتوقعها , ونحن نضع أمام هذه التوقعات الخادعة المتغطرسة الحقيقة الراسخة أن الله لا يتغير في الحق والمشيئة , في الأمانة والعدل" .

(جون ديك)

 

للكاتب : ارثر بنك

ليست هناك تعليقات: