الاثنين، 26 سبتمبر 2022

رحمة الله

 

رحمة الله

The Mercy of God

 

" اِحْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ" (مز 136 : 1) , علينا ان نحمد الله جداً علي صفة كمال الطبيعة الإلهية هذه . ثلاث مرات في هذه الآيات العديدة يطلب كاتب المزمور من القديسين أن يحمدوا الرب علي هذه الصفة الرائعة , وبالتأكيد هذا أقل ما يمكن طلبه من هؤلاء الذين حصلوا علي الكثير من وراء هذه الصفة , حين نتأمل في خصائص صفة كمال الله هذه , لا يمكننا إلا أن نبارك الله عليها , رحمته العظيمة (1مل 3 : 6) , "كثيرة" (مز 86 : 5) "بأحشاء" (لو 1 : 78) , "رحمته الكثيرة (الوافرة)" (1بط 1 : 3) , هي " أَمَّا رَحْمَةُ الرَّبِّ فَإِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ عَلَى خَائِفِيهِ، وَعَدْلُهُ عَلَى بَنِي الْبَنِينَ،" (مز 103 : 17) , يمكننا ان نقول مع كاتب المزمور "أَمَّا أَنَا فَأُغَنِّي بِقُوَّتِكَ، وَأُرَنِّمُ بِالْغَدَاةِ بِرَحْمَتِكَ، لأَنَّكَ كُنْتَ مَلْجَأً لِي، وَمَنَاصًا فِي يَوْمِ ضِيقِي" (مز 59 : 16) .

"أُجِيزُ كُلَّ جُودَتِي قُدَّامَكَ. وَأُنَادِي بِاسْمِ الرَّبِّ قُدَّامَكَ. وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ، وَأَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ" (خر 33 : 19) , كيف تختلف رحمة الله عن نعمته ؟ تنبع رحمة الله من صلاحه , الموضوع الأول لصلاح الله هو عطفه أو فضله الذي يعطيه بحريته لمخلوقاته كمخلوقات , وهكذا وهب الوجود والحياة لكل شئ , الموضوع الثاني لصلاح الله هو رحمته , والتي تعني استعداد الله لتخليص مخلوقاته الساقطة من بؤسها , وهكذا تفترض الرحمة وجود الخطية مسبقاً .

رغم أنه من الصعب فهم الفرق الحقيقي بين نعمة الله ورحمته من أول وهلة , فمن المفيد ان نتأمل بعناية في تعاملات الله مع الملائكة غير الساقطين , إنه لم يُظهر لهم الرحمة , لأنهم لم يكونوا في احتياج لها , إذ أنهم لم يخطئوا أو يقعوا تحت تأثير اللعنة , ولكنهم بالتأكيد هم موضوع نعمة الله المجانية القديرة :

أولاً بسبب اختياره لهم من بين كل الجنس الملائكي (1تي 5 : 21) .

ثانياً : بناء علي اختيارهم بسبب حفظه لهم من الارتداد , حيث تمرد الشيطان وسحب معه ثلث أجناد السماء (رؤ 12 : 4) .

ثالثاً : أن جعل المسيح رأساً لهم (كو 2 : 10 , 1بط 3 : 22) , فأصبحوا في أمان أبدي في الحالة المقدسة التي خلقوا عليها .

رابعاً : بسبب المكانة المرتفعة التي أعطاهات الله لهم , ان يعيشوا في محضر الله المباشر (دا 7 : 10) , ليخدموه علي الدوام في هيكله المقدس , ليتقبلوا منه مهاماً كريمة (عب 1 : 14) , هذه هي النعمة الغنية المعطاة لهم لكنها ليست الرحمة .

في سعينا لدراسة رحمة الله كما تقدم في كلمة الله يجب أن نميز أمراً من ثلاثة أوجه . إن أردنا أن "نُفصّل" كلمة الحق بالاستقامة :

أولاً : هناك رحمة الله العامة , والتي تقدم ليس فقط لكل البشر , المؤمنين وغير المؤمنين علي السواء , بل أيضاً للخليقة كلها "الرَّبُّ صَالِحٌ لِلْكُلِّ، وَمَرَاحِمُهُ عَلَى كُلِّ أَعْمَالِهِ" (مز 145 : 9) "هُوَ يُعْطِي الْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْسًا وَكُلَّ شَيْءٍ." (اع 17 : 25) يرحم الله الخليقة الوحشية في احتياجاتها , ويوفر لها المؤن اللازم,

ثانياً : هناك رحمة الله الخاصة , والتي تقدم لبني البشر , فهو يعينهم ويسعفهم , بغض النظر عن خطاياهم , وهو يقدم لهم هم ايضاَ كل ضرورات الحياة , "فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ." (مت 5 : 45) .

ثالثاً : هناك رحمة الله القديرة والمحفوظة لورثة الخلاص , والتي يقدمها لهم في العهد , من خلال الوسيط .

فلنتبع قليلاً اكثر الفرق بين التمييزين الثاني والثالث اللذين أوضحناهما عاليه , من المهم ان نلاحظ ان مراحم الله التي يهبها للأشرار هي وقتية فقط , بمعني أنها محدودة بالزمن الحاضر , لن يقدم لهم رحمة  فيما بعد القبر , "لأَنَّهُ لَيْسَ شَعْبًا ذَا فَهْمٍ، لِذلِكَ لاَ يَرْحَمُهُ صَانِعُهُ وَلاَ يَتَرَأَّفُ عَلَيْهِ جَابِلُهُ." (إش 27 : 11) . لكن عند هذه النقطة قد تطرح صعوبة نفسها علي قرائنا , وهي تحديداً , ألا تؤكد كلمة الله أن "إلي الأبد رحمته" (مز 136 : 1) ؟ لابد من إيضاح نقطتين في هذا الشأن , لا يمكن أن يتوقف الله عن كونه رحيماً , فهذه صفات للذات الإلهية (مز 116 : 5) , لكن ارادته الإلهية تنظم استعمال رحمته , يجب أن يكون الأمر هكذا , فلا يوجد شئ خارج عن ذاته يجبره علي عمل شئ ما , فلو وجد هذا الشئ لأصبح هو الأسمي ,  وتوقف الله عن كونه الله .

إن محض النعمة الإلهية هي وحدها التي تقرر ممارسة الرحمة الإلهية , يؤكد الله علي هذه الحقيقة بشكل مُعبّر في رومية 9 : 15 "لأَنَّهُ يَقُولُ لِمُوسَى:«إِنِّي أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ، وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ»." ليست شقاوة المخلوق هي التي تجعل الله يظهر رحمة , لأن الله لا يتأثر بأشياء خارج ذاته , لو كان الله يتأثر بالبؤس المدفع للخطاة البرص , لكان طهّر وخلّص جميعهم , لكنه لا يفعل ذلك , لماذا ؟ ببساطة لأنها ليست هذه مسرته أو قصده , وبالأحري ليس فضائل المخلوق هي التي تجعله يهب مراحمه عليه , فمن التناقض ان نقول استحقاق الرحمة , "لاَ بِأَعْمَال فِي بِرّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ ­ خَلَّصَنَا " (تيطس 3 : 5) يقف كل منهما علي النقيض من الآخر , ولا حتي فضائل المسيح هي التي دفعت الله ليهب مراحمه لمختاريه , فنحن هكذا نضع النتيجة وكأنها هي السبب , بل "عن طريق" أو بسبب أحشاء رحمة إلهنا أرسل المسيح لشعبه (لو 1 : 78) فضائل المسيح تجعل الله قادراً أن يهب مراحم روحية باستحقاق لمختاريه , بعد ان تم ايفاء عدله بالضمانة ! لا , فالرحمة تنشأ فقط عن مسرة الله السيادية .

مرة اخري رغم أن هذا حق , حق مبارك ومجيد , أن "إلي الأبد رحمته" لكن علينا ان نلاحظ بدقة من هم موضوع إظهار رحمته , حتي الإلقاء بالأشرار إلي بحيرة النار هو عمل من أعمال الرحمة , يجب التفكير في عقاب الأشرار من وجهة نظر ثلاثية الجوانب , من جانب الله هو عمل عدل , لينتقم لكرامته , لا تظهر رحمة الله علي حساب قداسته وبره , من جانبهم , هي عمل إنصاف , حين يتألمون كجزاء عادل علي آثامهم , لكن من وجهة نظر المفديين , عقاب الأشرار هو عمل من أعمال الرحمة التي لا يُنطق بها , كم يكون هذا رهيباً لو كان الوضع الحالي للأمور , أن يُجبَر أبناء الله علي الحياة بين أبناء إبليس , مستمراً للأبد , لن تكون السماء سماءاً فيما بعد لو ظلت آذان القديسين تسمع كلمات الأشرار المجدفة القذرة , كم هي رحمة في أورشيم الجديدة أنه "وَلَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلاَ مَا يَصْنَعُ رَجِسًا وَكَذِبًا،" (رؤ 21 : 27) !.

لئلا يعتقد القارئ أننا في الفقرة السابقة كنا نعتمد علي خيالنا , فلنرجع إلي كلمة الله المقدسة لتؤيد ما قلناه في مزمور (143 : 12) نجد داود يصلي قائلاً "وَبِرَحْمَتِكَ تَسْتَأْصِلُ أَعْدَائِي، وَتُبِيدُ كُلَّ مُضَايِقِي نَفْسِي، لأَنِّي أَنَا عَبْدُكَ." وأيضاً في مزمور (136 : 15) نقرأ ان الله "دَفَعَ فِرْعَوْنَ وَقُوَّتَهُ فِي بَحْرِ سُوفٍ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ" لقد كان هذا عمل انتقام من فرعون وجنوده , لكنه عمل رحمة للإسرائيليين , أيضاً في (رؤ 19 : 1-3) نقرأ "وَبَعْدَ هذَا سَمِعْتُ صَوْتًا عَظِيمًا مِنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ فِي السَّمَاءِ قَائِلاً:«هَلِّلُويَا! الْخَلاَصُ وَالْمَجْدُ وَالْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ لِلرَّبِّ إِلهِنَا،لأَنَّ أَحْكَامَهُ حَقٌّ وَعَادِلَةٌ، إِذْ قَدْ دَانَ الزَّانِيَةَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي أَفْسَدَتِ الأَرْضَ بِزِنَاهَا، وَانْتَقَمَ لِدَمِ عَبِيدِهِ مِنْ يَدِهَا»وَقَالُوا ثَانِيَةً:«هَلِّلُويَا! وَدُخَانُهَا يَصْعَدُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ»." .

مم أشرنا إليه فلنلاحظ كم أ، رجاء الأشرار المزعوم باطل , لكنهم بالرغم من عداوتهم المستمرة لله , لا يزالون يعتمدون علي رحمة الله عليهم , كثيرون من يقولون , لا اعتقد ان الله سيلقي بي في الجحيم , إنه رحيم ولن يفعل ذلك , هذاالرجاء هو أفعي سامة , إن رعوها في أحضانهم ستلدغهم فيموتون , الله إله العدل كما أنه إله الرحمة , وقد أعلن بشكل مُعبٌّر أنه "حافظ الإِحْسَانِ إِلَى أُلُوفٍ. غَافِرُ الإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْخَطِيَّةِ. وَلكِنَّهُ لَنْ يُبْرِئَ إِبْرَاءً" (خر 34 : 7) , نعم لقد قال "اَلأَشْرَارُ يَرْجِعُونَ إِلَى الْهَاوِيَةِ، كُلُّ الأُمَمِ النَّاسِينَ اللهَ." (مز 9 : 17) , وكما أن الناس لا يقولون : "اعتقد انه إن تركنا القذارة تتراكم ومياه الصرف الصحي تركد ويحرم الناس أنفسهم من الهواء النقي , أن الله الرحيم لن يدعهم يقعون فريسة لحمي مميتة" . الحقيقة هي أن من يهملون القواعد الصحية يموتون بالمرض , بالرغم من رحمة الله , وأيضاً بنفس القدر من الصدق , من يهملون قواعد الصحة الروحية سيعاقبون للأبد بالموت الثاني .

الأمر المهيب علي نحو مُخيف هو أن الكثيرين يسيئون إلي صفة الكمال الإلهية هذه , فهم يستمرون في احتقار سلطان الله , ويدوسون علي قوانينه , ويستمرون في الخطية , ثم يطالبون برحمته , لكن الله لن يكون غير منصف لذاته , يُظهر الله رحمته للتائب الحق , وليس لغير التائب "إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ." (لوقا 13 : 3) , أن تستمر في الخطية ثم تتكل علي رحمة الله لينزع عنك الدينونة هو فكر شيطاني , فكأنك تقول "لِنَفْعَلِ السَّيِّآتِ لِكَيْ تَأْتِيَ الْخَيْرَاتُ»؟" ومكتوب عن هؤلاء " الَّذِينَ دَيْنُونَتُهُمْ عَادِلَةٌ " (رو 3 : 8) سيخيب رجاء هذا الزعم حتماً , اقرأ بعناية تثنية (29 : 18-20) . المسيح هو كرسي الرحمة الروحي (غطاء التابوت) , وكل من يحتقرون ربوبيته ويرفضونها "سيبيدون مِنَ الطَّرِيقِ. لأَنَّهُ عَنْ قَلِيل يَتَّقِدُ غَضَبُهُ " (مز 2 : 12) .

لكن لتكن فكرتنا الآخيرة هي عن مراحم الله علي شعبه " لأَنَّ رَحْمَتَكَ قَدْ عَظُمَتْ إِلَى السَّمَاوَاتِ، " (مز 57 : 10) , الغني الناتج عن ذلك يتعدي أكثر أفكارنا سمواً , " لأَنَّهُ مِثْلُ ارْتِفَاعِ السَّمَاوَاتِ فَوْقَ الأَرْضِ قَوِيَتْ رَحْمَتُهُ عَلَى خَائِفِيهِ. " (مز 103 : 11) , لا يقدر أحد أن يقيسها , المختارون هم "آنية رحمة" (رو 9 : 23) , الرحمة هي التي أيقظتهم حين كانوا أمواتاً في خطاياهم (أف 2 : 4-5) , الرحمة هي التي خلصتهم (تي 3 : 5) , رحمته الغنية هي التي ولدتهم لميراث أبدي (1بط 1 : 3) , يعوزنا الوقت لنخبر عن رحمته التي تحفظنا , وتؤيدنا , وتسامحنا , وتسدد احتياجنا , الله هو "أبو الرأفة" لشعبه (2كو 1 : 3) .

"حين أري مراحمك يا إلهي , وتتأمل بها نفسي المشرقة ,

أرتقي بالمشهد وأتوه , في عُجب , وحب , وتسبيح" .

 

 

بقلم :  ارثر بنك

ليست هناك تعليقات: