الخميس، 9 مايو 2013

دعوة ابراهيم - تك 12

دعوة ابراهيم

تكوين (12)

فى زمن كالوقت الحاضر، الذى انتشرت فيه المسيحية الاسمية انتشاراً كبيراً، من المهم بنوع خاص أن يكون المسيحيين مقتنعين اقتناعاً عميقاً بضرورة التحقق شخصياً من دعوة الله، الأمر الذى بدونه لا يكون هناك استمرار أو ثبات فى الطريق المسيحى.
إنه لأمر سهل جداً أن نجاهر بالإيمان فى وقت تنتشر فيه المجاهرة، ولكنه ليس من السهل مطلقاً أن نسير بالإيمان، ليس من السهل مطلقاً أن نطرح الأمور الحاضرة على رجاء «الأمور العتيدة».  لا شىء سوى ذلك المبدأ القوى، الذى يشير إليه الرسول بالقول «الثقة بما يرجى والإيقان بأمور لا ترى» (عب1:11)، يقدر أن يمكن الإنسان من الاستمرار فى طريقٍ، إذ هى فى عالم فيه كل شىء مغلوط وكل شىء مشوش، لابد أن تكون شائكة وصعبة.  ينبغى أن نشعر أننا مدفوعون بأمر عتيد أن يأتى، شىء يستحق الانتظار، شىء يعوض كل أتعاب طريق السائح الشاقة؛ قبل أن ننهض للتخلص من ظروف الطبيعـة والعالم لكى «نحاضر بالصبر فى الجهاد الموضوع أمامنا» (عب2:12).
كل هذا ممثل أحسن تمثيل فى أبرام، وهذا التمثيل يزداد إيضاحاً وقوة من المباينة الظاهرة بينه وبين حياة لوط والآخرين الداخلين ضمن نطاق القصة.
فى الأصحاح السابع من سفر الأعمال نجد الكلمات الآتية، التى تتجه مباشرة إلى الموضوع الذى أمامنا: «ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم وهو فى ما بين النهـرين قبلما سكن فى حاران وقال له اخرج من أرضك ومن عشيرتك وهلم إلى الأرض التى أريك» (ع2،3).  هنا نواجه أول شعاع من ذلك النور الذى جذب أبرام من ظلمة «أور الكلدانيين»، والذى إذ سطع على طريقه، المتعبة من وقت إلى آخر، أعطى نفسه قوة جديدة بينما هو يسير متجهاً إلى تلك «المدينة التى لها الأساسـات التى صانعها وبارئها الله».  «إله المجد» جعل أبرام  يرى فى ضوء طبيعته الحالة الحقيقة للأشياء التى فى أور، وأكثر من هذا أن يعتقد، كما لاحظ بعضهم، بشىء خاص بالمجد والميراث العتيدين.  لذلك لم يتردد، ولكنه حالاً جهّز نفسه للرحيل.
على أننا، عند المقارنة الدقيقة بين فاتحة الأصحاح السابع من سفر الأعمال وبين تكوين 1:12، نحصل على مبدأ هام؛ فمن الوقت الذى ظهر فيه الله لأبرام إلى أن وصل أخيراً إلى أرض كنعان، حدثت حادثة تتضمن تعليماً عميقاً لنا.  أقصد أن أشير إلى موت والد أبرام إذ نقرأ فى أعمال 7 «ومن هناك نقله بعدما مات أبوه إلى هذه الأرض التى أنتم ساكنون فيها» (ع4).  هذا يمكّننا من فهم قوة التعبير الوارد فى تكوين1:12 «وكان الرب قد قال لأبرام».  من هذين النصين يظهر جليا أن تحرك تارح وعائلته والوارد ذكره فى تكوين31:11 كانت نتيجة إعلان من «إله المجد» لأبرام.  ولكن لا يظهر أن تارح وصله إعلان مثل هذا من الله.  إننا نرى فيه بالأحرى عقبة لأبرام أكثر من أى شىء آخر؛ لأنه قبل أن يموت لم يستطع أبرام أن يأتى إلى أرض كنعان؛ موطنه المعين من الله.
والآن فهذا الظرف الذى قد يظهر للقارئ السطحى تافهاً، يثبت بأقوى كيفية الحقيقة السابقة الذكر، وهى أنه ما لم يتحقق الإنسان شخصياً من دعوة الله؛ إعلان «إله المجد»، فلا يمكن أن يكون هناك استمرار أو ثبات فى الطريق المسيحى.
لو أن تارح تحقق تلك الدعوة، ما كان ليصبح عقبة لأبرام فى طريق إيمانه، ولا كان ليسقط، كمجرد ابن للطبيعة، قبل أن يصل أرض الموعد.
سنجد نفس المبدأ موضحاً فى حياة لابان فيما بعد فى تكوين 24.  فقد كان لابان - كما لاحظ أحدهم - يقظاً تماماً إلى قيمة الحلى الذهبية والفضية التى أحضرها عبد إبراهيم معه، ولكنه لم يكن ليعى قيمة النبوة الخاصة بالأمور المستقبلة التى خرجت من شفتيه.  وبعبارة أخرى لم يصله إعلان من «إله المجد» وبالتبعية بقى - كما لاحظ نفس ذلك الكاتب - "رجلاً عالمياً محضاً".
فى حادثة تغيير شاول الطرسوسى نتعلم نفس هذا الحق.  كان هناك أشخاص آخرون معه عندما سقط على الأرض من جراء صدمة لمعان مجد الرب يسوع.  هؤلاء الأشخاص نظروا الضوء حقيقة، وشاهدوا كثيراً من الظروف الخارجية التى أحاطت بذلك المتحمس الهائج، لكن كما يقول هو نفسه «لم يسمعوا صوت الذى كلمنى» (أع22: 9).
هنا النقطة المهمة، ينبغى أن الصوت يتكلم «إلىَّ»؛ «إله المجد» لابد أن يظهر"لى"، قبل أن يكون فى إمكانى أن آخذ مركز سائح وغريب فى العالم، وأداوم على أن «أركض فى الجهاد الموضوع أمامى».  إنه ليس إيماناً قومياً، ولا هو إيمان عائلى؛ ولكنه إيمان شخصى، ذلك الذى يجعل منّا شهوداً حقيقيين لله فى العالم.
ولكن عندما أُريحَ أبـرام من العقبة التى وجدها فى شخص والده، استطاع الدخول بقوة وحزم فى طريق الإيمان، الطريق التي لا يقدر «اللحم والدم» مطلقاً أن يطآنها، الطريق الشائكة المحفوفة بالمتاعب من بدايتها إلى نهايتها، والتى فيها الله فقط هو الذى يقدر أن يعول النفس.
«واجتاز أبرام فى الأرض إلى مكان شكيم إلى بلوطة موره. وكان الكنعانيون حينئذ فى الأرض. وظهر الرب لأبرام وقال لنسلك أعطى هذه الأرض فبنى هناك مذبحاً للرب الذى ظهر له» (تك12: 6،7).  هنا أبرام يأخذ حالاً موقفه كعابد فى مواجهة الكنعانيين.  فالمذبح يميّزه كمن بعد أن تخلَّص من أور الكلدانيين، تعلم أن ينحنى أمام مذبح الإله الحقيقى وحده «الذى صنع السماء والأرض».
وفى العدد التالى نجد المظهر العظيم الثانى من مميزات رجل الإيمان؛ وهو «الخيمة» التى تشير إلى الاغتراب فى العالم. «بالإيمان تغرب فى أرض الموعد كأنها غريبة ساكناً فى خيام مع اسحق ويعقوب الوارثين معه لهذا الموعد عينه» (عب11: 9).
ستكون لنا فرصة أن نلاحظ بأكثر إمعان، بينما نتقدم، هاتين النقطتين الهامتين فى حياة أبرام.  ولذلك سنكتفى الآن بإثبات هذه الحقيقة، وهى أن الخيمة والمذبح يريانا إياه بكل وضوح كغريب وكعابد، وأنه لذلك كان رجلاً منفصلاً بالكلية عن طريق هذا العالم الشرير.
ما أن دخل أبرام فى طريقه، حتى كان عليه أن يقابل إحدى تلك الصعوبات التى لها خاصية امتحان الإيمان بالنسبة إلى نوعه وغـرضه، «وحدثت مجاعة فى الأرض».  ها هى الصعوبة تقابله فى نفس المكان الذى دعاه الـرب إليه الآن.  وهذا ليس بالأمر السهل، عندما نشاهد التجربة والحزن والضيق والصعوبة تنتظرنا، ونحن سائرون في الطريق المستقيم الضيق، ونظل مثابرين، نظل مواصلين السير فى الطريق إلى الأمام، خصوصاً إذا كنا نرى بجوارنا - كما لاحظ أبرام - حالة تختلف تماماً عن حالة التجربة الخاصة التى قد نكون متألمين تحت ثقلها؛ فأناس هذا العالم «ليسوا فى تعب الناس ومع البشر لا يصابون» (مز5:73).  هذا الشعور يزداد بحرماننا التام من كل شىء يمكن بحسب المنظور أن يكون أساساً ودعامة لأملنا. 
ما أن وطأت قدم أبرام الأرض، حتى عمّت المجاعة حوله من كل جانب إلا فى مصر.  لو أنه فقط وجد نفسه هناك، إذاً لاستطاع أن يعيش فى راحة ورخاء.
هنا يجب على رجل الإيمان أن يتتبع طريق الطاعة المجردة. كان الله قد قال «اخرج من أرضك. . .  إلى الأرض التى أريك». صحيح أن أبرام قد يكتشف بعد ذلك أن إطاعة ذلك الأمر تتضمن بقاءه فى أرض ليس فيها بحسب الظاهر سوى هلاك من الجوع ينتظره.  لكن حتى لو أن الأمر كذلك، فالله لم يربط الأمر بأى شرط على أى حال.  كلا، فالكلمة كانت بسيطة وواضحة «إلى الأرض التى أريك»، كان يجب أن يكون هذا صحيحاً وملزماً لأبرام.  فالمجاعة إذاً ما كان يجب أن تحمله على ترك الأرض، ولا الرخاء ينبغى أن يحببه فى البقاء فيها.  فالكلمات الفعالة كانت هى «التى أريك».
لكن أبـرام يترك هذه الأرض، وينحنى للوقت تحت وطأة التجربة، وينزل بأقدامه إلى مصر تاركاً وراءه خيمته ومذبحه.  هناك حصل على الراحة والتنعم، وتخلص بلا شك من التجربة المضنية، التى كان يعانيها فى أرض الموعد، ولكنه فقد فى تلك الأثناء عبادته واغترابه، الأمور التى يجب أن تكون على الدوام أعز ما لقلب السائح.
لم يكن لأبرام فى مصـر شىء يتغذى به كرجل روحى.  قد تكون مصر – بل هى بلا شك - استطاعت أن تقدم له ثراء كإنسان طبيعى، ولكن ذلك كان كل ما تستطيع أن تقدمه مصر، وما كانت لتعطى شيئاً لأبرام إلا إذا ضحى بصفته كغريب وكعابد لله.
ولا حاجة بنا إلى القول أن هذا الأمر لا يزال صحيحاً إلى هذه الساعة.  يوجد الكثير فى العـالم مما تستطيع طبيعتنا القديمة أن تتطعم به بغاية الترف.  توجد الملـذات الكثيرة، ملذات الجسد والعقل، ووسـائل كثيرة للحصول على رغبات القلب، ولكن ما المنفعة من كل هذا إذا كانت تلك التمتعات  لابد وأن تقود إلى الخروج عن طريق الإيمان؛ طريق الطاعة المجردة.
هذا هو السؤال الذى يوجه إلى المسيحى: أيهما أفضل، الذهب والفضة، القطعان والمواشى، الراحة الحاضرة والثراء فى مصر، أم الخيمة والمذبح فى «أرض الموعد»؟  أيهما أفضل: الراحة الجسدية والسرور العالمى، أم السير الهادئ المقدس مع الله هنا، والبركة الأبديـة والمجد بعد حين؟  لا نستطيع أن نمتلك الأمرين معا لأن «من يحب العالم فليست فيه محبة الآب».
لكن قد نتساءل: لماذا كان على أبـرام أن يختبر المجاعة والتجربة فى أرض الموعد؟  لماذا لم يجد سكناً وثروة هناك؟
 الجواب بكل بساطة هو «الكنعانيون والفرزيون كانوا حينئذ ساكنين في الأرض» (تك13: 7). فالأرض لم تكن إلى ذلك الحين صالحة لأن تكون محل إقامة مفديى الله.  كان يجب أن إيمان أبرام يمكّنه من أن يخترق بنظره تلك الفترة الطويلة الهائلة التى يجب أن تمر قبل إتمام الوعد.  ونفس مبدأ الإيمان هو الذى جعله ينتظر إلى الوقت المعين من الله، وإلى ذلك الحين يبقى بدون «وطأة قدم» (أع7: 5).
هكذا يجب أن يكون الحال الآن.  رجل الإيمان الحقيقى لا يستطيع أن يجد مكانـاً فى العالم لأن "الكنعانيين" هناك.  عما قريب لن يكون الأمر كذلك، لأن «كل المعاثر» ستُطرح خارج المملكة، وتصير «ممالك العالم لربنا ولمسيحه» (رؤ11: 15) وحينئذ يسود البر «من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصى الأرض».

بقلم : تشارلس ماكنتوش





ليست هناك تعليقات: