الاثنين، 7 نوفمبر 2022

 

التأمل في الله

The Contemplation of God

 

لقد رأينا في الفصول السابقة بعض كمالات شخص الله العجيبة الجميلة ، من هذا التأمل الضعيف الناقص في صفات الله ، يجب أن يكون واضحاً لنا أن الله ، أولاً : كائن فوق الإدراك ، ونحن تائهون في التعجب من عظمته اللانهائية ، لا نقدر إلا أن نقتبس كلمات صوفر ، "«أَإِلَى عُمْقِ اللهِ تَتَّصِلُ، أَمْ إِلَى نِهَايَةِ الْقَدِيرِ تَنْتَهِي؟ هُوَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ، فَمَاذَا عَسَاكَ أَنْ تَفْعَلَ؟ أَعْمَقُ مِنَ الْهَاوِيَةِ، فَمَاذَا تَدْرِي؟ أَطْوَلُ مِنَ الأَرْضِ طُولُهُ، وَأَعْرَضُ مِنَ الْبَحْرِ." (أيوب 11 : 7-9) . حين نضع أفكارنا علي حقيقة أن الله سرمدي ، غير مادي ، كلي الوجود ، كلي القدرة ، تذهل عقولنا .

لكن عدم قدرتنا علي إدراك الطبيعة الإلهية ليس سبباً لنتوقف عن أن نستفهم في مخافة ونسعي مصلين أن نفهم ما أعلنه لنا برحمته عن نفسه في كلمته ، حيث إننا لا نقدر أن نحصل علي المعرفة الكاملة ، فمن الحماقة أن نقول إننا لذلك لن نبذل جهداً  للحصول علي أي درجة منها ، أحسن من قال :

"لا يوجد ما ينمي العقل ، أو يعظم من نفس الإنسان ، أكبر من الدراسة المخلصة ، الأمينة ، المستمرة لهذا الموضوع العظيم وهو الله ، أكثر الدراسات امتيازاً لتنمية النفس هي معرفة المسيح وإياه مصلوباً ومعرفة اللاهوت في الثالوث المجيد"

(سي اتش سبيرجن C.H.Spurgeon)

 

ولنقتبس المزيد من كلمات أمير الوعاظ هذا :

"الدراسة اللائقة بالمؤمن هي اللاهوت ، أعلي العلوم ، أعظم التوقعات ، أقوي الفلسفات ، التي يمكنها أن تجذب اهتمام ابن من أبناء الله هي ، اسم ، وطبيعة ، وشخص ، وأعمال ، ووجود الله العظيم الذي يدعوه أباه ، هناك شئ يطور العقل باضطراد في التأمل في اللاهوت ، أنه موضوع واسع جداً ، حتي أن كل أفكارنا تتوه في ضخامته ، وهو عميق جداً ، حتي أن كبرياءنا يغرق في لا محدوديته ، نحن نقدر أن نفهم ونُحكِم قبضتنا علي المواضيع الأخري ، فنحن نشعر فيها بالرضاء عن النفس ، ونمضي في طريقنا قائلين "يا لي من حكيم !" لكن حين نأتي لهذه المعرفة الكبري ، نجد أن الزيج (المقياس) الخاص بنا لا يقدر علي معرفة عمقها ، ولا تقدر عيون النسر الخاصة بنا أن تري ارتفاعها ، ونمضي في طريقنا قائلين "لأَنَّنَا نَحْنُ مِنْ أَمْسٍ وَلاَ نَعْلَمُ، لأَنَّ أَيَّامَنَا عَلَى الأَرْضِ ظِلٌّ" (أيوب 8 : 9)

نعم يجب أن يُعلِّمنا عدم قدرتنا علي إدراك الطبيعة الإلهية التواضع ، والحذر ، والمخافة ، بعد كل أبحاثنا وتأملاتنا علينا أن نقول مع أيوب : "هَا هذِهِ أَطْرَافُ طُرُقِهِ، وَمَا أَخْفَضَ الْكَلاَمَ الَّذِي نَسْمَعُهُ مِنْهُ وَأَمَّا رَعْدُ جَبَرُوتِهِ فَمَنْ يَفْهَمُ؟" (ايوب 26 : 14) . حين طلب موسي من يهوه ان ينظر مجده ، أجابه قائلاً : "وَأُنَادِي بِاسْمِ الرَّبِّ قُدَّامَكَ." (خر 33 : 19)  ، وكما قال آخر "الاسم هو اجتماع صفاته" كان البيوريتاني جون هاوي محقاً حين قال :

"الفكرة التي يمكننا أن نُكوَّنها هنا عن مجده ، هي مثل موجز مختصر عن كتاب كبير ، أو مثل صورة طبيعية صغيرة لبلد كبير ، لقد أعطانا هنا تقريراً حقيقياً عن نفسه ، لكنه ليس كاملاً ، حتي يحمي أفكارنا من أن تنقاد بالخطأ ، لكنه لا يحميها من الجهل ، يمكننا استخدام عقولنا لنتأمل في الكمالات المتعددة التي يكشف لنا بها الله المبارك عن ذاته ، ويمكننا في عقولنا ان نعزوها كلها له ، مع أننا مازلنا لم نحصل إلا علي مفاهيم قليلة وقاصرة عن كل منها ، لكن علي قدر ما تقدر مداركنا أن تتجاوب مع الاكتشاف الذي يهبه لنا عن صفات سموه المتعددة ، لدينا نظرة حاضرة عن مجده" .

صحيح أن الفرق حقاً كبير بين معرفة الله التي للقديسين في هذه الحياة والمعرفة التي سيأخذونها في السماء ، لكن لا يجب أن نقلل من قدر الأولي لأنها ناقصة ، ولا نُعظِّم من الثانية أكثر من الحقيقة ، صحيح أن كلمة الله تعلن أننا سنراه وجهاً لوجه" "ونعرف" كما عُرِفنا (1كو 13 : 12) ، لكن ان نستنتج من ذلك أننا سنعرف حينها الله بمثل كمال معرفته لنا ، نكون قد انخدعنا برنين الكلمات المحض ، وتغافلنا عن التحديد الذي يتطلبه الموضوع بالضرورة ، هناك فارق شاسع بين أن يتمجد القديسون وأن يكونوا آلهة ، سيبقي المؤمنون ، في حالتهم الممجدة ، مخلوقات محدودة ، ولذلك ، لن يقدروا أبداً علي فهم الله غير المحدود .

"سيري القديسون الله في السماء بعين الذهن ، لأنه سيبقي غير مرئي للعين الجسدية ، وسيرونه بوضوح أكبر مما كانوا يرونه بالعقل والإيمان ، وبشكل أكثر توسعاً مما أعلنته كل أعماله وتدبيراته ، لكن لن تتسع أذهانهم بالقدر الذي يقدرون به أن يفهموا في الحال ، أو بالتفصيل ، السر الكامل لطبيعته ، حتي يدركوا الكمال غير المحدود ، عليهم أن يكونوا غير محدودين هم أنفسهم . حتى في السماء ، ستكون معرفتهم جزئية ، لكن في نفس الوقت ستكون سعادتهم كاملة ، لأن معرفتهم ستكون كاملة بهذا المعني ، ستكون مناسبة لسعة الموضوع ، لكنها لن تشمل ملء الموضوع ، نحن نؤمن أن الأمر سيكون مرحلياً ، وكلما اتسعت رؤاهم ، تزداد سعادتهم ، لكنها لن تصل أبداً للحد الذي لا يوجد بعده اكتشاف ، وعندما تمر الأزمنة وراء الأزمنة ، سيبقي هو الإله الذي لا يمكن إدراكه" .

(جون ديك John Dick)

ثانياً : من ملاحظتنا لكمالات الله ، يتضح أنه كائن مكتف بذاته ، هو مكتف بذاته في نفسه ولنفسه ، لأنه أول الكائنات ، فلا يمكنه أن يقبل من آخر ، ولا يحدُّ بقوة آخر ، لأنه غير محدود ، فهو يمتلك كل الكمالات الممكنة ، حين كان الله مثلث الأقانيم في الوجود وحده ، كان هو الكل لنفسه ، وجد فهمه ، ومحبته ، وطاقاته ، موضوعاً مناسباً في ذاته ، لو كان في احتياج لشئ خارجي ، لما كان مستقلاً ، ولما كان هو الله ، لقد خلق كل الأشياء وهذا له (كو 1 : 16) ، لكن لن يكن هذا ليسد احتياجاً ، لكن ليوصل الحياة والسعادة للملائكة والبشر ، ويدخلهم إلي رؤية مجده ، صحيح أنه يطالب مخلوقاته العاقلة بالولاء والخدمات ، لكنه لا يستفيد من أعمالهم ، كل الفائدة تعود عليهم هم "هَلْ يَنْفَعُ الإِنْسَانُ اللهَ؟ بَلْ يَنْفَعُ نَفْسَهُ الْفَطِنُ هَلْ مِنْ مَسَرَّةٍ لِلْقَدِيرِ إِذَا تَبَرَّرْتَ، أَوْ مِنْ فَائِدَةٍ إِذَا قَوَّمْتَ طُرُقَكَ؟"(ايوب 22 : 2-3) ، أنه يستخدم وسائل وأدوات لتحقيق غاياته ، لكن ليس من منطلق نقص القوة ، لكن في أغلب الأوقات ، ولدهشتنا ، يكون هذا لإعلان قوته في ضعف الأدوات .

اكتفاء الله بذاته يجعله الكائن الأسمي الذي نسعي إليه ، لا توجد سعادة حقيقية إلا في الاستمتاع بالله ، الحياة في رضاه ، ورحمته أفضل من الحياة ، "نَصِيبِي هُوَ الرَّبُّ، قَالَتْ نَفْسِي، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَرْجُوهُ" (مراثي 3 : 24) . محبته ، نعمته ، مجده ، هي المواضيع الكبري لرغبة القديسين وهي ينابيع أقصي شبعهم "كَثِيرُونَ يَقُولُونَ: «مَنْ يُرِينَا خَيْرًا؟ ». ارْفَعْ عَلَيْنَا نُورَ وَجْهِكَ يَا رَبُّ. جَعَلْتَ سُرُورًا فِي قَلْبِي أَعْظَمَ مِنْ سُرُورِهِمْ إِذْ كَثُرَتْ حِنْطَتُهُمْ وَخَمْرُهُمْ." (مز 4 : 6-7) ، نعم يمكن للمؤمن ، حين يكون في رشادة عقله أن يقول "فَمَعَ أَنَّهُ لاَ يُزْهِرُ التِّينُ، وَلاَ يَكُونُ حَمْلٌ فِي الْكُرُومِ. يَكْذِبُ عَمَلُ الزَّيْتُونَةِ، وَالْحُقُولُ لاَ تَصْنَعُ طَعَامًا. يَنْقَطِعُ الْغَنَمُ مِنَ الْحَظِيرَةِ، وَلاَ بَقَرَ فِي الْمَذَاوِدِ، فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلهِ خَلاَصِي." (حب 3 : 17-18) .

ثالثا : من ملاحظتنا لكمالات الله ، يتضح أنه السيد القدير علي كل الكون ، أحسن من قال :

"لا يوجد سلطان مطلق كذلك ، الذي تأسس في بدء الخليقة ، من كان من الممكن ألا يفعل شيئاً ، كان له الحق أن يفعل كل شئ حسب مسرته ، حين استعمل قوته التي لا يتحكم بها أحد ، جعل أجزاء من الخليقة مجرد مواد جامدة ، منها ما هو أكبر أو له نسيج أجمل ، وتتميز بصفات مختلفة ، لكنها كلها جامدة وغير واعية ، وأعطي نظاماً لأجزاء أخري ، وجعلها قادرة علي النمو والتوسع ، لكنها تبقي بلا حياة بالمعني السليم للكلمة ، ولأخري لم يعطها فقط نظاماً ، بل وجوداً واعياً ، وأعضاء للحس وللقدرة علي وجود الدافع الذاتي. وفي هذه أضاف للإنسان عطية العقل ، وروحاً خالدة ، يتحد بها مع نظام أعلي من الكائنات التي وضُعت في المناطق العليا ، وعلي العالم الذي خلقه يلوح بصولجان القوة الكاملة . "سَبَّحْتُ وَحَمَدْتُ الْحَيَّ إِلَى الأَبَدِ، الَّذِي سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ، وَمَلَكُوتُهُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. وَحُسِبَتْ جَمِيعُ سُكَّانِ الأَرْضِ كَلاَ شَيْءَ، وَهُوَ يَفْعَلُ كَمَا يَشَاءُ فِي جُنْدِ السَّمَاءِ وَسُكَّانِ الأَرْضِ، وَلاَ يُوجَدُ مَنْ يَمْنَعُ يَدَهُ أَوْ يَقُولُ لَهُ: «مَاذَا تَفْعَلُ؟" (دانيال 4 : 34-35) .

(جون ديك John Dick)

المخلوق الذي يُعتبر هكذا، ليس له حقوق ، لا يمكنه أن يطلب شيئاً من خالقه ، وليس له الحق في الشكوي من أي طريقه يعامله بها ، لكن حين نفكر في السلطان المطلق لله علي الجميع ، لا يجب أن تضيع عن أنظارنا كمالاته الأدبية ، الله عادل وصالح ويقوم بكل ما هو حق ، ومع ذلك هو يمارس قدرته بحسب مسرته الملوكية البارة ، إنه يعين لكل مخلوق مكانه كما يراه خيراً في نظره ، إنه يرتب الظروف المختلفة للكل بحسب مشوراته . إنه يشكل كل إناء بحسب قراراته التي لا تتأثر بأحد . "هو يرحم من يشاء ويقسي من يشاء" أينما نكون ، عينه علينا ، أي من نكون ، حياتنا وكل شئ هو تحت تصرفه . فبالنسبه للمؤمن هو الآب الحنون ، وللخاطئ المتمرد سيكون ناراً آكلة "وَمَلِكُ الدُّهُورِ الَّذِي لاَ يَفْنَى وَلاَ يُرَى، الإِلهُ الْحَكِيمُ وَحْدَهُ، لَهُ الْكَرَامَةُ وَالْمَجْدُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. آمِينَ. " (1تي 1 : 17) .

 بقلم : ارثر بنك

ليست هناك تعليقات: